للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ويولد الإيمان الشعري مع خيال الطفولة، هو كذلك يميز عقلية الهمج. ذلك بأنه يتصل بغرائز الفطرة الأولى: بالخوف والحب والعداوة والجنس. فإذا تقدمت البيئة الأدبية إلى مرتبة عليا من مراتب المدنية استعلى المتفننون بذلك الإيمان الشعري فمثلوه تمثيلاً في النحت والتصوير والموسيقى والشعر وأطلق عليه الناس بعد ذلك اسم الفن. وهو لذلك يميز الإنسان في أحط درجاته، ويميزه كذلك في عصور الفن الزاهرة. فالإنسان الأول كان يقيم عفريتاً يعبده ليرضي خياله المفزوع، والإنسان المتمدن ما يزال إلى اليوم يصوغ امرأة من الذهب والعاج ليرضي رغبته الملحة. والعفريت والمرأة كلاهما نتيجة لذلك الإيمان الشعري الذي ينكر الواقع ويعنو للخيال. كلاهما يتفجر من نفس العين، ولو أن هذا قد هذب وذاك ما يزال في حاجة إلى التهذيب. وكلاهما نتيجة غريزة من الغرائز: الأول نتيجة الخوف، والثاني نتيجة الحب الجنسي.

وقد ذهب النقدة لذلك إلى أن الشعر ليس من شأنه حقائق الأشياء، وأن الحدود بين العلم والشعر ينبغي أن تكون ظاهرة لا يعتدي أحدهما على الآخر. وليس عند هؤلاء شعراً ما يعالج قضايا منطقية، بل ليس شعراً ما يعرض لنواحي الخلق العام. فإن آفاق الشعر لا تمتد إلى حيث ينبغي أن يبدأ النثر. بل لقد أمعن الناقد الإنجليزي في ذلك حتى قال إن الكذب آية من آيات الشعر فالشعر من الوجهة النفسية يرتكن على الخيال لا على الواقع، والعقيدة الشعرية هي الحالة النفسية المثلى لعمل الشعر، وهي كذلك الحالة النفسية لاستيعابه.

وإذا نحن حاولنا أن نطيق تلك المعايير النفسية على الشعر العربي وجدنا أنها تستقيم لحد كبير. والأصل في التشبيه والمجاز والاستعارة أن تكون خداعاً نفسياً. وليس الشعر شيئاً إلا إذا كان تشبيهاً ومجازاً واستعارة. على أن شعراء العرب قد علوا عن تلك المرتبة الأولى من مراتب القصيدة الشعرية، وبعضهم قد تخيل فأنطق الجماد، وبعضهم قد تدله فصور المرأة تصويراً نفسياً دقيقاً. وإليك بعد ذلك بعض أبيات لأبن خفاجة الأندلسي يصف فيها جبلاُ حتى ترى معي إلى أي حد تنطبق هذه القطعة على الواقع وإلى أي حد تنطبق على الخيال:

وأرعن طماح الذؤابة باذخ ... يطاول أحنان السماء بغارب

يسد مهب الريح عن كل وجهة ... ويزحم ليلاً شهبه بالمناكب

<<  <  ج:
ص:  >  >>