للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وقور على ظهر الفلاة كأنه ... طوال الليالي مفكر في العواقب

يلوث عليه الغيم سود عمائم ... لها من وميض البرق حمر ذوائب

أصخت إليه وهو أخرس صامت ... فحدثني ليل السرى بالعجائب

وقال إلى كم كنت ملجأ قاتل ... وموطن أواه تبتل تائب

وكم مر بي من مدلج ومؤدب ... وقال بظلي من مطي وراكب

ولاطم من نكب الرياح معاطفي ... وزاحم من خضر البحار غواربي

فما كان إلا أن طوتهم يد الردى ... وطارت بهم ريح النوى والنوائب

فما خفق أيكي غير رجفة أضلع ... ولا نوح ورقي غير صرخة نادب

وما غيض السلوان دمعي وإنما ... نزفت دموعي في فراق الصواحب

وأحسب أن كل بيت من هذه الأبيات جدير بالتقدير. وهي جميعاً تكون وحدة جمالية لها أثر كريم في النفس. على أنها لا تنطبق على الواقع إلا قليلاً. فإذا أنت حاولت أن تتأثر عنصر الحقيقة من هذا الشعر لم تجد من هذا البيت وذاك البيت إلا أنه كان جبلاً عالياً مر كثير من الناس به في أيامه الخوالي. أما الجبل الذي يسد مهب الريح والذي يعتم عمامة سوداء من النسيم لها ذؤابات حمر من البرق؛ هذا الجبل الذي يسكن فيفكر، ويتحدث فيتفلسف، والذي ترجف ضلوعه من الأسى، وتذرف دموعه من الوجد؛ ذلك الجبل ما هو إلا خيال سام يصور الواقع لكنه فوق الواقع؛ وهو هو الذي نسميه شعراً

وإنما تمتاز هذه القطعة من الشعر بالجمال لأن فيها وحدة تسوي بين أجزائها جميعاً، وفيها كذلك علو بالخيال من بيت إلى بيت، فهي تبدأ بشيء كالواقع لكنها تنتهي بشيء كالخداع. على أنك تستطيع أن تقدرها إذا كنت في حالة نفسية خاصة، حالة نفسية تعترف بإيمان الشعر أو بالخداع أو بالخيال (سمه ما شئت)

لكنك لا تستطيع أن تقدرها إذا أنت وقفت بين البيت وبين البيت تحاول أن تتشكك في صدق المعاني وتحاول أن تنكر على الجبل أن يتكلم أو على الغيم أن يكون عمامة أو على الأيك أن يكون ضلوعاً

على أن ذلك الإيمان الشعري يمتلك النفس أكثر ما يمتلكها عند قراءة القصة أو عند مشاهدة الرواية المسرحية أو عند قراءة ملحمة طويلة في الشعر. فإذا أنت ذهبت إلى المسرح

<<  <  ج:
ص:  >  >>