للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كان هنالك من هم بحق أساتذة فليس لهؤلاء الأساتذة تلامذة بمعنى التلمذة الصحيح، إذ ما يمكن لطالب الأدب أن يستفيد من أدب معلمه سوى تقليده والسير في ركابه إذا لم يكن لهذا الطالب شخصيته المستقلة التي تجري في مسالكها مقتبسة من كل ما يدوي في أجواء الأدب من نبرات العبقرية دون أن تجاري أحداً وأن تقلد أحداً

من الذين تستمر أذواق الشعر في النهضة الحديثة شعراء تغنى الإشارة إليهم عن ذكرهم، وقد كان لكل منهم طابعه الخاص، فما كان أسلوب حافظ ليشبه أسلوب شوقي مثلاً، غير أنك تجد عشرات من الشعراء قلدوا الأول وعشرات قلدوا الثاني فنظموا على وتيرة كل منهما دون أن يبلغ واحد منهم مرتبة أمير الشعراء أو مرتبة شاعر النيل.

وإنني لا أزال أذكر ما شاهدته من ظاهرة التقليد هذه أيام إعلان الدستور حين تسنم المنابر عدد قليل ممن استوحوا الساعة فأهملوا البيان إلهاماً، إذ لم تمض أسابيع حتى غصت المنابر بالمتتلمذين فكنت تسمع أصوات أمراء المنبر وتشهد حركاتهم تقليداً، فمنهم من هو صورة مشوهة للريحاني، ومنهم من تلبس خيال الغلابيني أو مجاعص أو. . . ولكنني لم أر واحداً من هؤلاء المقلدين الذين استنامت شخصيتهم الباهتة للاستهواء بلغ مقاماً له شأنه في مراتب الخطابة

وهنالك ظاهرة أخرى في الفن الغنائي قد تدهشك إذا أنت انتبهت لما يسمعك إياه المذياع كل يوم من أصوات عديدة لأم كلثوم تخرج من حناجر عشرات المغنيات، ومن أصوات عديدة لعبد الوهاب يسمعك إياها عدد من المغنين يتزايد يوماً فيوما.

هذه هي المدارس في الفن، وما هي إلا عبارة عن تجمع كتل من المقلدين حول الأفذاذ النابغين، فما أقل عدد الهاتفين بأصوات تعلق دماء القلوب في نبراتها، وما أكثر الصخور الصماء تدوي في فراغها الأصوات تقذف بنبرة لتخنق نبرات.

هذه كلمة أؤبد بها نظرية صاحب ديوان (أفاعي الفردوس) في إنكار المدارس في الفن، أو بالأحرى في إظهار هذه المدارس على حقيقتها. وما كان أبو شبكة إلا من الثائرين على التقليد والحدود، وهو في شعره أصل مستقل لا يعرف لشعوره حداً إلا ما ينشأ من شعور نفسه

(البقية في العدد القادم)

<<  <  ج:
ص:  >  >>