للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وقد وصل هذيان هذه البلبلة إلى حد فظيع من الرجم بالغيب باتخاذ الفروق التي تساق في الأصل لملء بعض الفجوات التي بين حقائق العلوم كأساس مسلم للحكم عليه، مثلما اتخذوا الأثير، وليس هو أكثر من فرض فرضه بعض العلماء ليحل به بعض مشاكل الطبيعة، ولا يزال هذا الفرض بين رفض وإثبات إلى اليوم.

ويتعجب العقل البسيط السائر مع أبجديات الطبيعة من أن يصل تفكير بعض الناس - بله كبار الفلاسفة - إلى مثل ما وصل إليه من هدم الحقائق بالفروض!

ليس المقصود من الحياة الفكرة ألا يرضي العقل بالأوليات الظاهرة المسلمة وأن يمعن في الغوص والتعقيد ليخرج بفروض غريبة شخصية ليحل بها ما لا يفهمه من قضايا الكون كما هو الطابع الغالب على الفلسفات، وإنما المقصود من الحياة الفكرية أن يكون التأمل فيها ممهداً للإثبات والعلم اليقيني. فلا يفلت الخيال في حالة الصحو كما يفلت في حالة النوم أو التخدير. . . وما من شك في أن عصور الفلسفة كلها لم تفد الإنسانية بمقدار ما أفادتها الطريقة التجريبية التي دعا إليها فرنسيس بيكون فإنها الطريقة التي قفزت بالإنسانية إلى أسباب رقيها السريع في القرنين الأخيرين، لأنها تركت عالم الأحلام والبدوات والفروض الشخصية التي قد لا تفهم إلا في رءوس القائلين به وقد لا تكون ناضجة الفهم في رءوسهم أيضاً. . . واتخذت البديهيات البسيطة والمركبة أساساً بنت عليه صرح العلم الحديث

ولقد كان جزاء هؤلاء الذين يسرفون في اتباع الظنون والفروض ويتركون البسائط المعقولة بالبديهية إلى الأوهام، أن يعيشوا منكدين أشقياء متشائمين مرضى مضروبين بالشك والألم والبلبلة والشذوذ منفيين من الحياة! وهاهم أولاء أبو العلاء وشوبنهاور ونيتشه أمثلة تضرب في ذلك. . .

إن شوبنهاور قد كذب كذبة بلقاء، وخرف خرفاً عبقرياً! حين زعم أن العالم معدوم لا وجود له إلا في تصورات الإنسان. . وحين أسند العمى والهوج إلى (روح الوجود) وحين زعم أنها لم تدرك نفسها إلا في عقل الإنسان وشعوره، ولذلك أراد أن يغيظها بتمرده عليها وترك ملذاته التي هي ملذاتها في واقع فلسفته. . وكان الأولى بشجاعته هذه أن يقضي على جسمه جملة واحدة حتى يغلق باب المتاع الذي فيه أمام روح الوجود المتعطشة إلى إدراك

<<  <  ج:
ص:  >  >>