من شاء، وجلسنا هناك جلسة شربنا فيها الشاي واسترحنا، وجمعنا قوانا لبلوغ القمة
على ذروة الجبل بقية جدار تحيط بمستوى ضيق في وسطه صدع في الصخر. يزعم العامة أن عند هذا الصدع شُقَّ صدر الرسول. وللعامة في الأمكنة المقدسة أوهام يصلونها بمواضع من الأرض والجبال والأبنية والأشجار. وكأن السلطان عبد العزيز رحمه الله صدَّق هذا الزور فأمر أن تبنى على المكان قبة عالية كان ارتفاعها ثمانية أمتار. فلما جاء الوهابيون هدموا القبة والجدار إلا بقية
وقفنا على الذروة نسرح العيون حولنا بين جبال وأودية ونرى مكة وجبالها وقلاعها ودورها
هذه قمة حراء فأين الغار؟ جنوبي هذه القمة درجات هابطة على السفح منحوتة ومبنية، هبطنا زهاء ثلاثين درجة ثم سرنا فملنا نحو اليمين إلى صخرة هائلة مائلة على الجبل، وتخللنا مسلكاً ضيقاً قصيراً بينها وبين السفح إلى مستوى صغير، فإذا أمامنا سفح منقطع ينحدر إلى أرض سحيقة، وعلى يميينا قمة حراء التي كنا فوقها، وعلى يسارنا الغار: غار حراء العظيم! فجوة ضيقة تميل على مدخلها صخور تدعم بعضها حجارة مبنية. فأما سعة الغار فمرقد ثلاثة متجاورين، وأما علوه فقامة رجل، وفي نهايته صدع ترى منه الأرض والجبال إلى مكة.
هنا فر محمد بن عبد الله بنفسه - فر إلى ربه من ضوضاء الحياة وأكاذيبها، من مظالم الناس ومفاسدهم، من باطل العقائد وزورها - أوى إلى هذا الجبل، إلى هذا الغار، إلى قلب الخليقة! هنا طود أشم يطل على أودية ألحت عليها الشمس المحرقة ليس بها من معنى الحياة إلا نبت ضئيل، وليس بها من ذكرى الحياة إلا أثر السيل بعد المطر. ووراء الأودية جبال شامخة تتداول عين الرائي؛ وعلى بعد مكة، بين هذه الأودية والجبال وتحت هذه السماء الصاحية حقائق لا يشوبها تمويه ولا تزوير، ولا يلحقها تبديل ولا تغيير، ولا يمسها رياء ولا نفاق.
فرّ محمد إلى هذه الحقائق لا فرار الراهب يترك الناس لينجو بنفسه، ولكن كما يلجأ إلى الشاطئ من يحاول إنقاذ إخوانه الغرقى. هنا جمع محمد نفسه وفتح قلبه وناجى ربه، وهنا تجلى الله لهذه النفس الزكية، وأضاء على هذا القلب الطاهر، هنا جاء الوحي ونزلت الآية: