على أن الرافعي كان يحب الرحلة ويطرب لها ويتمنى لو أتيحت له ولكن موارده المحدودة كانت تقعد به؛ ولما كان في بطانة المغفور له الملك فؤاد، كان له جواز سفر مجاني في الدرجة الأولى على خطوط سكة الحديد المصرية؛ فكان يعد حصوله على هذا الجواز ظفراً بأمنية عزيزة، لأنه أتاح له أن ينتقل ما شاء بين البلاد من غير غرم، فلا يكاد يستقر في بلد، فيوماً في القاهرة، ويوماً في الإسكندرية، ويوماً في بور سعيد؛ يفيد من هذه الرحلات ما يفيد لأدبه أو لبدنه وأعصابه. حدثني مرة أنه كان ينظم قصيدة من مدائحه الملكية فأحس شيئاً من التعب والملال، فقصد إلى المحطة فاتخذ مقعده في قطار كان على أهبة السفر إلى بور سعيد، فأتم قصيدته هناك ثم عاد. .
وقد كان هذا الجواز هو سبب ما بينه وبين الأبراشي باشا مما فصلت مجمله في فصل سابق، حين امتنع الابراشي باشا مد أجل هذا الجواز بعد انتهائه!
وكان يغبط الذين يجدون في طاقتهم أن يقضوا الصيف من كل عام في أوربا ويتمنى لو أتيح له، ليفيد من ذلك شيئاً يجدي على أدبه. على أنه مع ذلك كان يرحل إلى أوربا أيان يريد، ولكن في السيما. . .
كان يسمى السيما: خارج القطر! ويزعم أن في ذهابه لمشاهدتها كلما سنحت له الفرصة غناء عن السفر، فسواء عنده أن يرحل إلى أوربا في قطار أو باخرة، وأن ترحل إليه أوربا بحالها في رواية يشاهدها على ستار السيما؛ فلكيهما أثر متشابه في نفسه؛ وذلك بعض مذهبه في فلسفة الرضا والسعادة!
وكم كان ظريفاً أن تسمعه يتحدث إلى صديق من أصدقائه قائلاً:(هل لك أن تصحبني الليلة إلى خارج القطر؟) يلقي هذا السؤال بلا تكلف ولا قصد إلى الفكاهة، لأن كلمة (خارج القطر) كانت عنده علماً عرفياً على السيما لا يحتاج إلى تعليق!
وكان عجيبا في إيمانه بالغيب، وتناجي الأرواح، وتنادي الموتى والأحياء؛ وكان يؤمن بالسحر والعرافة؛ وكثيراً ما كنت تسمع منه:(حدثتني نفسي. . . أُلْقِي إلي. . . هتف بي هاتف) وكان يعني ما يقول على حقيقته. جلست إليه مرة في منزله، فأخذنا في حديث طويل. . . وعلى حين غفلة سكت، ثم قال:(وكيف صديقنا مخلوف؟) قلت: (لم أره من زمان!) قال: (إنه قادم الساعة. . لقد أُلْقِي إلي. . . أحسبه الآن يصعد في السلم. . .!) فما