قمنا بالسيارة صبيحة يوم الثلاثاء ٢٢ من مارس ١٩٣٨ من الموصل ووجهتنا (تل أعفر) - وتل أعفر هذه قرية في وسط الطريق الذي طوله خمسون ومائة كيلو متر بين الموصل ومضارب قبائل شمر بالشلقاط.
تقع هذه القرية على نهر دجلة الذي رأيت النساء يغسلن الأواني والثياب على ضفتيه، وأدهشتني طريقة غسل النسوة للملابس، إذ تمسك كل امرأة مطرقة خشبية لدق الثياب.
ولست أفهم الصلة بين إزالة الأوساخ من الثياب وبين دقها بذاك المضرب الخشبي وهي موضوعة على صخرة سوى تمزيقها، ما لم يكن لديهن سر لا نفهمه!!
في تل أعفر أبى مستقبلونا من رجال الشيخ عجيل الياور إلا أن نشرب الشاي فأجلسونا في شيخانة (مشرب الشاي) بسيطة، أحسن الموجود في القرية، وغير مزدحمة بالناس. بعد دقائق قدم لنا الشاي الأسود في كوبات صغيرة، وكان طعمه مثل الماء المذاب فيه (الشبة) الثقيلة جداً
ثم واصلنا المسير، ومعنا دليل الشيخ. أما عن رداءة الطريق فحدث ولا حرج، المطر المنهمر يكاد يغرق السيارة بمن فيها، أما العشب الأخضر النضر على جانبي الطريق، والأزهار البديعة الألوان، المختلفة الأنواع، فتسبح كلها في لجج متموجة. وظهر الجو كأنما خيم عليه ضباب متكلم، إذ يسمع تساقط المطر ولا ترى وحداته لغزارته وسرعته
منظر من مناظر الطبيعة العظيمة الهائلة، فضاء في فضاء لا يحجب النظر فيه إلا الأفق، ويجري الإنسان فيه بقوة العلم والاختراع. فلا ماء المطر على غزارته بمستطيع إطفاء نار السيارة، ولا السيارة تكل عن مسابقة العواصف والمطر، ولا إرادة الإنسان بمستضعفة حتى تبلغ المرمى
الطبيعة عاصفة ثائرة. والإنسان جبار لا ينثني عزمه متى عزم
هانحن أولاء نترك الطريق الطيني المبلل بعد أن سرنا عليه ساعات، ويشير الدليل بالسير على مروج خضراء غارقة في الماء، وبدأ الخفاق يدق بقوة وسرعة، فالعشب مرتفع، ولا يؤمن معه العثار، ولكن من ذا الذي يجرؤ أن يزيد من مخاوف السائق الكردي التعب، الذي هدته وعورة الطريق ورداءة الجو؟!
سيري على بركة الله أيتها الجارية، وأي بركة تحدث لها، إذا كان عليها أن تصطدم فجأة