للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حقا إن انتصاراتنا الباهرة على ويلات الحياة مسجلة في سير كثير من أولئك المجالدين البررة. ولئن لم يكن الموت في سبيل العرفان وآيات الجهاد من نصيبهم على الدوام، فان مثابرتهم الصامتة كثيراً ما كانت محفوفة بمرائر جسيمة تتحيف الصبر وتهد الأركان وتجعل الموت عذباً مستساغاً؟

وإننا لنعلم أن (وليم هارفي) حين أعلن في محاضراته المتواضعة سير الدورة الدموية في الجسم الإنساني، وفتح الأذهان لأول مرة لتفهم سر من أسرار الوجود العظيمة لم يكن يطمع في منحة أعظم من إقبال الناس على أبحاثه وقبولها بروح العطف، بيد أن العالم أبى عليه هذه المنحة. وغاليلو لم يتطلب منفعة من اكتشافاته التي جلَّت للإفهام حقائق كثيرة في الفلسفة الطبيعية، بل كان جزاءه التهديد بالتعذيب، ووجد غنمه الأكبر في نجاته من هول الخازوق والعذراء: آلة التعذيب بمطَّ الجسم!

ولقد مات (تيخوبراه) في أحضان الفاقة والشقاء لأنه قشع عن العقول البشرية غيوم الترهات والخزعبلات التي كانت تدفعها إلى الفزع من الأجرام السماوية والكواكب السيارة. وقد أحدث (دارون) وهو في مرتقاه الرفيع، فوق ذروة تلال (كنت) ثورة عظيمة في العقول لم يسبق لها مثيل في كل ما أحدثه عالم من علماء الطبيعة. بل إن الراهب (مِندل) في حديقة صومعته المشمسة، وبنحله وببازلته قد بلغ حيث لم تبلغ جهود دارون في كل ما توصل إليه لاكتشاف ناموس الوراثة. ومع ذلك فقد لاقى هذان الرجلان المناجزة والعداء (مع أن راهب برن الشيخ) قد أسبغ منناً عظيمة كفلت الغذاء الصالح للإنسان والحيوان، وأدخل على نتاج العالم الحيواني والنباتي تقدماً لم يسبقه إليه أي إنسان بل أي جيل من الناس. وكل من يبغي أن يجئ اليوم بسلالة جديدة من الماشية والأغنام، أو نوعاً جديداً من الزهر والثمر والبر والحنطة، لا بد له أن يتبع النواميس التي اكتشفها وفسرها الراهب الشيخ في حديقته ببلدة (برن) وكل ديون العالم تقصر عن الوفاء بحقوقه التي لم يتقاض لأجلها شيئاً من العالم، أو يفرض عليه أجراً لها، بل إنه لم يؤثر نفسه بامتياز من امتيازاتها أو يحتكر حقاً من حقوق اكتشافها، وذلك لأنه كان رجلاً من الرجال الذين يغتذون بالأحلام.

وكذلك كان الحال في الثروة المادية التي تنشط اليوم مئات الصناعات والحرف، وتوطد

<<  <  ج:
ص:  >  >>