وإذا الرجال تصرفت أهواؤها ... فهواه لحظة سائل أو آمل
ويكاد من فرط السخاء بنانه ... حب العطاء يقول هل من سائل
بيد أن ظواهر هذا البذل الإنساني العظيم لا تقف عند هذا الحد لأن أولئك الرجال الذين يمسحون عنا أمراضنا لا يترددون في الخطار بحياتهم دون ريث ولا إمهال
مسترسلين إلى الحتوف كأنما ... بين الحتوف وبينهم أرحام
آساد موت مخدرات مالها ... بين الصوارم والقنا آجام
ولا يوجد علاج أو وقاية من أمراض المنطقة الحارة إلا وقد ابتاعوه لنا بأعمارهم الغالية وأنفاسهم الثمينة، فكان الواحد منهم يجرب علاجه في جسمه قبل أن يجربه في مريض. وتاريخ الطب حافل بآيات الشجاعة والولاء والبطولة التي لا تقل عما تفيض به أخبار أعظم الفاتحين
بل إننا حين نذهب بحديثنا إلى عصرنا الحالي العظيم - عصر الهندسة العملية وإقامة الجسور والقناطر العجيبة، وحفر الترع والقنوات المدهشة نجد الحالم من ورائها جميعاً، ونجد السفن تجري من محيط إلى محيط وادعة مطمئنة في قناة باناما حين كانت الحياة الإنسانية لا تساوي قيمة ريع عشرة أيام لعامل عادي، ولولا أن رجلاً اسمه رولاند روس جلس يحلم ليلة بعد ليلة من خلال منظاره المكبرّ ثم عثر على البعوضة التي تحمل جراثيم الموت وأخبر العالم أننا نستطيع أن نهزأ بالحمى الصفراء وبالحمى النافضة (الملاريا) لو فعلنا بهذه البعوضة ما فعله باستور بالطعام وليستر بالجراح لما حفرت ترعة بناما. وقد جنى مهندسوها وبناتها أرباحاً طائلة من ورائها، ولكن الرجال الذين ابتدعوها في أحلامهم ورسموا فكرتها وسعوا لتحقيقها لم يأخذوا لأنفسهم شيئاً لأنهم كانوا من ذوي الأحلام وكأن الشريف الرضي كان يعنيهم حين قال
وركب سروا والليل ملق رواقه ... على كل مغبر المطالع قاتم
حدوا عزمات ضاعت الأرض بينها ... فصار سراهم في ظهور العزائم
ترينهم نجوم الليل ما يبتغونه ... على عاتق الشعري وهام النعائم
وغطى على الأرض الدجى فكأننا ... نفتش عن أعلامها بالمناسم
وهكذا كان الناس يحملون ويحققون أحلامهم فصيروا عالمنا أجمل وأعظم من عالمهم،