يشهدونها آونة بعد آونة، ومقبلة مع الخير والحرية ومحاسن الأرض والسماء
أهكذا وحسب؟
كلا. بل للشتاء أثر في تقويم الجمال غير هذا الأثر في تعريفنا بقيمة الربيع
للشتاء أثر في أمم الشمال نلمسه فيما رزقته من حصافة وخيال، فهو الذي علمها الشعر والفن، وهو الذي علمها العمل والصناعة، وهو الذي علم أقوامها أن يطلبوا شيئاً فوق الأمان والحرية، ونعني به سيادتهم على الأمم التي جاءتها حرية الطبيعة بغير عناء
تخيل رجل الشمال المثلج والريح تعصف، والبرق يخطف، والرعد يقصف، والسماء لا شمس فيها ولا قمر، والأرض لا زهر فيها ولا ثمر، والنفس لا ترى لها مدى تمتد فيه إلا أن تثوب إلى سريرتها وتتغلغل في طويتها، وتخلق الصور وتناجي الأحلام وتأنس بالخواطر والأشجان
وتخيل هذا الرجل منفرداً في كوخ منفرد، ولا بد من انفراد في ساعة من الساعات وفي أمد من الآماد
ألا ترى أنه خليق أن يعمر عالم السريرة بخلائق الخيال، وأحلام الشوق والجمال؟
ثم تخيل قوم هذا الرجل سنة بعد سنة وجيلا بعد جيل، وكل سنة تضيف إلى قدرتهم على كفاح الشتاء قدرة جديدة، وإلى حيلتهم في دفاع البرد حيلة مفيدة، وإلى عزيمتهم في درء السيول والأمطار عزيمة رشيدة. فكيف تراهم يكونون بعد مائة شتاء وبعد ألف عام، وبعد ما لا عداد له من أجيال وسلالات؟
ثم تعلم أن الأعصاب هي خزانة الأخلاق الموروثة والقوة النفسية المذخورة، فماذا تكون الأعصاب التي تفتلت على هذا الجلد وهذا الجليد؟ وماذا تكون الطاقة فيها على استيعاب الشعور واختزان الأحاسيس وتصوير الأخيلة والأشكال؟
ففي الشتاء تربية للخيال، وتربية لوعي السريرة، وتربية للأعصاب وتربية للأخلاق، وفي كل أولئك استزادة من نصيب الشعور، ونصيب الفهم، ونصيب العزيمة، ونصيب الخلق والإبداع
ومن ثم يأخذ القوم من الربيع فوق ما يعطيه أهله المعرضين عنه الجاهلين بقدره، الناظرين إليه عن عرض كأنه زينة نظر في ساعة صفو أو ليلة سمر، فلا أعماق له وراء