وأول شيء ننظر فيه مع باحثنا المفضال في أساس المفاضلة وهل تقوم على أس من شطر العالم إلى شرق وغرب كما هو في تقويم البلدان. أما باحثنا فهو يرى هذا، فلكل من الشرق والغرب عنده عادات وطبائع تباين الأخر، ولقد اتسع مدى هذا التباين حتى ألبس العقلية في كل منها مظهراً خاصاً تميزت به عن الآخر.) ونحن من جهتنا نتفق إلى حد ما مع مفهوم هذا الكلام، ولكن نقطة الافتراق أننا نرى طابع العقلية الإنسانية كان يتأثر في كل من الغرب والشرق في عصور التاريخ بمد وجزر العقليتين الشرقية والغربية في حالة جزر، ويقابل ذلك مد من جهة العقلية الشرقية فان عوالم من الغرب كانت تدخل في منطقة المد الشرقي تتأثر بطابع العقلية الشرقية، وأحياناً كان يحدث العكس. إذا فيجب أن نكون محتاطين في قبول الأساس الجغرافي تقسيم العالم إلى شرق وغرب. لأن الشرق كان يمتد في بعض عصور التاريخ فيشمل بقاعاً من العالم الغربي، كان يصل إلى سفوح جبال البرانس بأسبانيا وسلسلة جبال الكرابات والطونة في البلقان ولمبارديا في إيطاليا، كما أنه كان يتقلص في بعض العصور فينسحب إلى الصحراء العربية في الشرق الأدنى والصحراء الكبرى في أفريقيا. وهذه مسائل ملحوظة من التاريخ لا تحتاج إلى بيان، فمن هنا يتضح أن كلامنا عن التفرقة بين الشرق والغرب إلى ما يمكن له من طابع للغرب وطابع للشرق أدق ما يمكن أساساً لبحث الفروق الكائنة بين طبيعة العقل الشرقي وطبيعة العقل الغربي. والموضوع بعد ذلك راجع لمفهوم الشرق والغرب من علم تقويم البلدان، ولكن بالصورة القاطعة التي تستخلص من التحديد الجغرافي الصرف، وإنما على وجه مرن يتفق والواقع الملموس.
وبعد فيتبين أن ما حار فيه باحثنا الفاضل في تحديد لفظي الشرق والغرب من كلامنا واضح ليس فيه موضع للبس أو غموض أو إبهام. أما أنه يرى بعد هذا كله كلمتي الشرق والغرب مجهولتا المعنى والتحديد في كلامنا، فلسنا نرى لكلامه هذا وجهاً. وهو الذي بعد أن انتهى من تلخيص رأينا في طبيعة العقلية الغربية وطبيعة الذهنية الشرقية ذهب يقول: (إلى هنا أحسن الكاتب صنعاً - يعني بذلك دراستنا لطبيعة العقلين الشرقي والغربي - ولو أنه لم يتعد مدلول هذا، يعني بذلك أننا لو وقفنا عند هذا الحد ولم نعمل على كسب تحليلاتنا