يتجه إلى البحر الأبيض ثم غير رأيه، أو كأنما أراد أن يطل على القطر الشقيق ليقرئه السلام، ثم يلتوي بعد ذلك في هدوء ورزانة، ويولي وجه شطر العراق، ولا يزال يجري هو أيضا حتى يصل إلى خليج العجم، لكن في شيء من التؤدة والتأني، وفي منتصف الطريق بين المنبع والمصب يشتاق الفرات إلى دجلة فيأخذ في الاقتراب منها، وفي هذا الجزء الأوسط من العراق يقترب النهران حتى ليظن انهما سيجتمعان. فلا يفصلهما غير مسافة أربعين كيلومتر. وفي هذا الموضع قد احتشد كثير من مدن العراق الشهيرة قديما وحديثا. فهنا نجد آثار بابل ومدائن كسرى، ونشاهد بغداد الزاهرة وكربلاء المقدسة. كلها في هذه المنطقة التي يتدانى فيها النهران، على أن اجتماعهما لا يتم بعد، بل يتباعدان مرة أخرى - ثم يلتقيان بعد لأي عند القرنة، فيتكون منهما نهر واحد هو شط العرب الذي ينحدر إلى خليج فارس.
هذان النهران هما رأس مال العراق وينبوع ثروته فمنهما ما} هـ الذي يسقيه، ومنهما تربته الخصبة التي يعيش أهله من ريعها ولقد تكون سهل العراق الفسيح مما حملة هذان النهران من الروساب والطين. فاستطاع السهل الخصب أن ينمو ويمتد إلى البحر، حتى أصبح خليج فارس أصغر مما كان عليه حتى في العصور التاريخية. ولا يعرف في العالم كله سهل نهري يزداد نموه بسرعة تعادل سرعة نمو سهل العراق. فهنا يتقدم البر وينكمش أمامه البحر بسرعة معدومة النظير، ولهذا كانت أرض العراق في عصر السومريين أصغر مما هي اليوم. بحيث كانت المدن السومرية القديمة: أور واردو ولاجاش واقعة على البحر أو قريبة منه.
وهكذا يعرض المؤلف أمام أعيننا صورا شائقة ممتعة لجغرافية العراق. ويعرضها في ترتيبها المنطقي المتسق. فتراه في الفصول الأولى يشرح موقع البلاد بالنسبة لما جاورها من الأقطار ثم يأخذ في شرح التكوينات الجيولوجية، وكيف تكونت أرض العراق في الأزمنة الجيلوجية، ثم ينتقل إلى وصف تضاريس البلاد وما بها من سهول مطمئنة، وجبال شاهقة تفصل ما بينه وبين بلاد الترك والفرس. ثم يصور لنا كيف يفيضان، ومقدار ما يجري فيهما من الماء، وفي أي الشهور يفيض، أو يغيض الماء ثم ينتقل بعد ذلك إلى دراسة المناخ والحيوان. . .