العمران. وإذا كانت معرفة مثل الزهاوي أن الإنسان لا يأتي إلى هذه الدنيا مرتين قد حملته على أن يطلق لنفسه العنان في اقتراف اللذات ويدعو إلى ذلك فيقول:
لا تقف في وجه لذا ... تك مكتوف اليدين
أنت لا تأتي إلى دني ... اك هذى مرتين
فما بالنا لو عرف الناس أنهم لا يأتون إلى دنياهم ولا يذهبون إلى مصير آخر؟ إنهم يفعلون كل جريمة للذة وانتهاز فرصة الوجود الواحد في هذه الحياة التي ليست حينذاك إلا وليمة أدبها لنا القدر لنتلذذ ونتشهى فيها كما قال الأول:
تمتع من شميم عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار
وحق لهم أن يفعلوا ذلك!
ينبغي أن تعلم وتتذكر دائماً أن (إرادة الحياة) إنما تحفل غاية الاحتفال بعقليات أكثرية الإنسانية لا بعقليات هؤلاء الفلاسفة المسرفين، وقطيع الإنسانية يسير بإلهام مركب كما تسير قطعان الحيوانات الأخرى بالهام بسيط، وإذا كانت قطعان الحيوان لا تحتاج في حياتها إلى فلسفة لأنها تسير بنظام أشبه بالنظام الآلي فإن الإنسانية تحتاج في سيرها في الحياة إلى الفلسفة ولكن من غير إسراف. فلا يفرضن حكيم أو فيلسوف شذت فيه شعلة الخيال والذكاء وقوة الافتراض عقله وطريقة إدراكه للأشياء على جميع عقليات الإنسانية المرهونة بالبسائط والسجينة في أقفاص فولاذية من الضرورات الجسدية. وقد دلت الإنسانية بتاريخها العتيد أنها لا تستجيب لخيال الفلاسفة المسرفين إلى درجة الهذيان أحياناً. ومن مصيبة بعض الفلسفات أنها تتخذ الشك ديناً؛ والشك حسن على أنه باب إلى اليقين عند من في عقولهم محطات ورباطات تقفهم عند البديهي، لا على أنه حالة استقرار فإنه حينئذ يُجِنُّ ويشقى ويشرد العقل الإنساني وينفيه من حياة الإلهام البسيط والمركب، وكل شيء في الحياة لغز وأُحْجِية من ذرة المادة وصورها وتكوينها وطاقتها وقواها إلى الروح وأسرارها وخفاياها. كل شيء يحمل كل عقل بصير يقظ على أن يقف أمامه دائراً بأسئلة عنه لا عدد لها، وقد نقلنا في مقال (النار المقدسة) المنشور في عدد سابق من الرسالة عن (ملكن) العالم الكهربائي الكبير قوله: (خبروني ما هي المادة؟ أخبركم ما هي الروح. . .)