من بضع نقر بها أوشال من الماء هنا وهنا. ولكن التماثيل لا تزال هي هي، في وضعها وسماتها، تومئ إلى تلك البركة في رخائها وجدبها، وارتفاعها وانخفاضها، وطهرها وأسنها.
وعقلية تلك التماثيل ومنطق وضعها الدال على فكرة خاصة ومقصد مبهم، لا تزال جادة في تفكيرها وتدبيرها لذلك الأمر الواحد.
ترى ما هو؟!
الطبيعة الصامتة تكوّن بيئة فخمة لذلك المجلس الصامت. العشب الزبرجدي يكسو الربوة العظيمة التي خلف الملكة وحاشيتها من الناحية اليمنى، والشجيرات الأرجوانية الزهر، نامية رابية وراء الصف المقابل من التماثيل في الناحية اليسرى، ويهتز مع النسيم ورق وغصون الأشجار العالية خلفها جميعاً، والشجيرات الخضراء التي بين كل تمثال وآخر، تحمل قليلاً من الزهر الأبيض النقي، يضع أوسمة على صدور بعض التماثيل، وتمسح غصون لطيفة خضراء على رؤوس البعض الآخر أو تظللها.
ويحجب بعض التماثيل كلها أو أجزاء منها عن ناظري الأشجار المشذبة المتناثرة هنا وهنا؛ والطيور تحلق وتغرد، وتهبط وتصمد، والزوار يغدون ويروحون منهم المفكر واللاهي، والمستشفي والساعي، ومنهم الطفل ومنهم الكهل.
كلها مناظر وأوضاع تستدعي الانتباه واليقظة، ولكن يخرجني من هذا كله صوت ذلك الناقوس البعيد، فأنظر إلى السماء فإذا بها السماء بزرقتها وسحبها وطيورها، وانظر إلى الأرض، فإذا بها الأرض بترابها وأحجارها، ومائها ودوابها وأشجارها.
وأنظر إلى ما حولي، فإذا بي أرى المجلس الصامت بين الطبيعة الصامتة، والكل وراء أمر غامض.
ترى ما هو؟!
وأنظر أخيراً إلى ساعتي، فإذا بها الواحدة، ووقت الغداء في الفندق قد حان، فأنصرف مسرعة إلى الحياة العملية التي لا نصيب منها إلا كسرة بها نقتات، وخرقة بها نحتمي.
أما التفكير، وأما الفلسفة، وأما التصوير - فليغير هذا العالم.