(ديونيسيوس) صاحب الأبحاث البلاغية الشهيرة، فعلق على الأوديسا تعليقاً انتهى فيه إلى أن أساس الشعر إنما هو الأسلوب، وقد تبعه كثير من النقاد في أوائل العصر الحديث، كل منهم يخطئ نظرية أرسطو، ويبرهن على أن الأسلوب والوزن لهما أثر كبير في صناعة الشعر والواقع أن الشعر عمل فني يقوم على أشياء لا على شيء واحد، فلا بد له من الصورة الفنية، والموسيقى الجميلة، والخيال البارع حتى يستطيع أن ينهض من الأرض فيحلق فوق رءوسنا في السماء.
وقيمة الشعر ترجع إلى أنه يترجم عن احساسات الإنسان محاولاً أن يوقظ العواطف المقابلة في قلوب الآخرين، ومادامت هذه هي قيمته، فكل منا شاعر إلى حد ما، لأن كلاً منا يملك إحساساً، وقوة بها يترجم للآخرين عما يجيش بصدره، ولكن يجب أن نعرف أن هؤلاء الذين نسميهم شعراء هم في الواقع أرق من الشخص العادي شعوراً وألطف منه وجداناً، وهم أقدر على التعبير عما يحسون ويتأثرون، قد انقادت إليهم أعنة الكلام واستسلمت لهم شوارد الأوزان، فسهل عليهم تصوير ما في قلوبهم وإخراج ما تطفح به صدورهم، والذين يعنون بدراسة الشعر ونقده يجدون مواطن كثيرة لا يجذب جمالها قلوبهم، ولا يسترعي حسنها عقولهم، يلفتهم الشاعر إليها بصوره الساحرة التي يعرضها، وموسيقاه الجميلة التي يغني بها، ولقد أحسن كيتس حين قال:(ربما جعل الله لك يا بني هذا العالم جميلاً في نظرك كما هو جميل في نظري) وحقاً أن الشاعر يتراءى له العالم جميلاً أو قبيحاً أكثر مما يتراءى لنا، وكثيراً ما يجعل الأشياء التي تبدو لنا قليلة القيمة أنيقة معجبة بما يصور من جلالها وما يظهر من جمالها.
وأول محاولة في الشعر هي ترجمة العاطفة الثائرة في قلب الشاعر، فقياس الشعر ليس هو المنطق، وإنما هو العاطفة، ونحن لا نسمع لشعر الشاعر، ولا لغنائه لأنه أكثر عقلاً من غيره، بل لأنه يجعلنا نشعر بحياة قلوبنا وأحاديث وجداننا، والتعبير العاطفي هو الشعر ولكن إذا حمل لباساً جميلاً، وشكلاً أخاذاً وموسيقى بارعة، فإذا لم يحمل ذلك لم يكن شعراً بالمعنى المعروف، لأن الشعر لا يتطلب حياة عاطفية فقط، بل هو يتطلب إلى ذلك الأسلوب الجميل والموسيقى المؤثرة، ويجب أن تكون الموسيقى قوية، وطبيعية، وحرة، لتستطيع عواطف الشاعر وأفكاره أن تبقى خالدة على وجه الدهر، أما إذا كانت الموسيقى