كما تعلم - سنيٌّ متدين، غير أن كونه سنيَّاً ومتديناً لم يمنعه أن يقدم على سرقة صريحة لا سبيل إلى المكابرة فيها، من أجل الرزق. ولو أنه كان قد سرق رغيفاً أو بيضة لكان جزاؤه ما يبينه قانون العقوبات. وعذر الذي يسرق الرغيف ليسكت (معدة ثعلبها لاحسٌ، وتارة أرنبها ضاغبُ) كما يقول ابن الرومي في قصيدته المشهورة لابن الحاجب، أوضح ممن يسرق ولا جوع به ولا خلة، وإنما يريد أن يستديم الرضى من صاحبُ عمله. ولو جئت بسارق الرغيف، وسارق المذكرة من الوزير أو أعوانه وسقتهما إلى القضاء، لكان المحقق أن يحكم على سارق الرغيف، وأن يبرئ سارق المذكرة. وقد يرى القاضي أن الفاقة (ظرف مخفف) - كما يقول رجال القانون - ولكن لن يكون عنده (ظرفاً مبرئاً)
وسارق المذكرة يستطيع وهو آمن أن يباهي بعمله، وأن يتخذ من قدرته على مثله شهادة مزكية له، ووسيلة للرفع من شأنه. وكل صاحب جريدة يسمع بجريمته يتمنى لو أن أخانا المجرم كان يعمل له، بل يتمنى لو كان كل من يعمل في جريدته على مثاله. ولكن سارق الرغيف بماذا يباهي؟ أبفقره؟ أم بعجزه عن الكسب؟ أم بما وصمه به القانون؟ أم بما نزل به من السجن؟ وكل صاحب عمل يزهد فيه ويخاف منه وينفي أن يكون عنده مثله؛ وقد يدركه عليه العطف، ولكنه لا يطمئن إليه. وإنه ليعلم انه ما أغراه بالسرقة إلا الجوع وقلة الحيلة وانقطاع الوسيلة؛ وإنه ما كان ليفعل ما فعل لولا ذاك؛ ولكن الشكوك مع ذلك تظل تساوره وتقاوم شعور العطف وتغالب رحمة القلب، بل منطلق العقل
وأحسب أن الصحافة مدرسة لتعليم هذا الضرب من السرقة ولست أعرف صحفيَّاً واحداً أتيحت له فرصة سرقة وأحجم عنها أو تردد. وما أبرئ نفسي ولا أنا أستثنيها. هذا وليس عملي في الصحافة - ولا كان قط - أن أستقي الأخبار، ولكن كل عمل في الصحافة رهن بالأخبار، فصلته به أوثق مما يبدو للمرء، وإن خيلت غير ذلك. وإنك لترى الصحفي (حنبليًّاً) في كل شيء إلا حين يحتاج إلى الوقوف على خبر، وإذا بالذمة تتسع، وإذا كل شيء جائز في سبيل الوصول إلى هذا المستور أو المكتوم؛ ثم لا أسف ولا ندم ولا توبة. وأكبر الظن أن تسقط الأخبار في الطباع، وأن الإنسان فضولي بفطرته. فإذا كان هذا هكذا فإن الصحافة لا تصنع أكثر من تنظيم الأمر وتوجيهه وجهة المصلحة العامة لخير الجماعة. والصحافة من ثمرات الحضارة، فهي تصنع كالحضارة - أعني أنها تعمد إلى