الشريف الرضي لا يضارع ابن الرومي في تحليله المعنى وتقصيه إياه، ذلك التقصي الذي ساعد ابن الرومي على إجادة الوصف سواء أكان وصفاً لهمسات النفس وخطراتها أو لأوجه الطبيعة والمرئيات. ولا يضارع الشريف أبا تمام فيما يتقنه من فلتات الصنعة النادرة التي تأتي بالأبيات الفذة الخالبة الآخذة بمجامع القلوب والتي تستهوي القلوب وتشعل الخيال. ولا يضارع الشريف المتنبي وأبا العلاء المعري، ولا سيما المعري في التفكير في النفس والحياة، وأخلاق الناس. ولكن للشريف نصيباً لا يستهان به من هذه المميزات؛ وهو مع ذلك قد اختص بالشعر الوجداني. ولهؤلاء الشعراء جميعاً ولغيرهم شعر وجداني، ولكني أحسب أن الشريف بزهم جميعاً في هذا الضرب من الشعر. وهو قد أمن ما يعتور ابن الرومي في بعض الأحايين من الفتور بسبب ما قد يبدر منه من الإفراط في التقصي والتحليل وتتبع الجزئيات؛ وأمن الشريف زلل المبالغة في الصنعة الذي قد يقع فيه أبو تمام إذا أفرط في حبه للاختراع والتوليد وإتيان ما لم يأت به أحد من التشبيه أو غيره من صيغ الصنعة؛ وأمن الشريف المبالغة غير المقبولة والمعاظلة كما في بعض شعر المتنبي؛ وأمن أيضاً ما قد ترى في ديوان سقط الزند للمعري من مبالغات المتأخرين التي لا تعبر عن وجدان صادق. ولو قارنت بين شعر الشريف وشعر معاصريه لوجدت فرقاً كبيراً في الأسلوب والذوق، فإن الصنعة كانت قد انتشرت في عصره وغالى الشعراء فيها من إبعاد في التشبيه ومغالاة في المعنى من غير سيل دافق من العاطفة والوجدان يلبسها لباس صدق الإحساس، ومن ألاعيب لفظية ومعنوية. وحسبك أن حكيم الشعر العربي المعري التزم ما لا يلزم في لزومياته مجاراة لصنعة عصره، ويولع أحياناً بالجناس وغيره من المحسنات اللفظية التي لا تناسب ما هو فيه من التفكير والحكمة والجد. ولا عبرة بما يقوله بعض المطلعين على الشعر الأوربي من أن الشاعر العالمي الإنجليزي شكسبير يفعل ذلك ويغري أحياناً بتلك الألاعيب اللفظية، فإن شكسبير يفعل ذلك في غير موضع الجد المؤثر، وعلى لسان أناس من طوائف خاصة، أو لهم صفات خاصة. والشريف يترفع عن أساليب هذا التلاعب بالألفاظ. ولعل هذا هو ما ينبغي أن يكون، لأن الشريف شاعر الوجدان، والتلاعب بالألفاظ يتلف أثر الشعر الوجداني في النفس إذ لا يستقيم معه. وإن أطرب التلاعب باللفظ بعض الناس طرباً سطحياً إلا أنه ليس طرب الوجدان والعاطفة.