للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وهذه الألاعيب اللفظية هي نزهة ولعب يلهو به الذكاء في استنباطها واختراعها ومقارنة معانيها؛ والذكاء من العقل، فلا غرو إذا قبله المعري شاعر العقل لأنه كان سائداً في عصره، وإن كان هذا الهزل ضد جده. ولا عبرة بما يقول القائل من أنه أراد أن يلفت بعبثه هذا الناس عن حرية القول والفكر والعقيدة في بعض شعره كما فعل رابليه الكاتب الفرنسي في تغطيته نقده لعقائد رجال الدين في قصصه بالعبث الصاخب، وإن كان عبث رابليه مجوناً لا يطيقه المعري. ولا عبرة بقول من يقول إن المعري أحس من مرارة نفسه أن الحياة والخليقة وإن كانت مقدسة تدعو من أجل قداستها إلى مرارة النقد، إلا أنها مهزلة أيضاً؛ فهي مهزلة مقدسة كما سماها دانتي الشاعر الإيطالي، ومن أجل أنها مهزلة أباح هزل الألاعيب اللفظية في أثناء جد الفكر

ومن أجل أن الشريف شاعر الوجدان كان أقرب شعراء عصره إلى الأقدمين، وكان بدوي النزعة وإن كان قد أخذ بنصيب من الصنعة العباسية لإعظام أثر المناجاة أو النداء أو الاستفهام أو النفي الوجداني في شعره، فإنه يستخدم هذه الصيغ البيانية ويتعرف وسائل الصنعة في تكرارها وموقعها. ولكنها صنعة طبيعية لا تحسُّ أنها صنعة. وهي لا تنافس الوجدان بل تقوي أثره. وإذا قرأ القارئ له غزله أو رثاءه أو إخوانياته أو تحسره على انحسار الشباب أو مناجاته الديار ظهرت للقارئ آثار هذه الصيغ في إشباع الوجدان وإقناعه، فإن الشريف الرضي يشبع الوجدان ويقنعه ويطربه ويستميله بالنداء الوجداني، أو الاستفهام والسؤال، أو النفي أو الإخبار بصيغة التحقيق والتأكيد، أو الأمر أو المناجاة بأساليب أخرى. . ويفعل الشريف كل ذلك حتى ليخيل إلى القارئ أن لأدوات هذه الصيغ في شعره معنى ليس لها في شعر غيره؛ وهو إذا رأى تلك الأدوات والحروف مثل (يا) أو (الهمزة) للاستفهام أو النداء أو (أين) أو (كيف) أو (لن) أو (قد) عرف أنه يجيد استخدامها لأغراض الشعر الوجداني أكثر من إجادة غيره استخدامها، ففي رثاء أحبابه وأودائه ينادي الدهر فيقول:

(يا) دهر رَشْقاً بكل نائبة ... (قد) انتهى العتب وانقضى العجب

(رُدَّ) يدي ما استطعت عَن أَرَبي ... (لَمْ) يبق لي بعد موتهم أرب

ففي هذين البيتين استخدام النداء والإخبار بالتحقيق والأمر والنفي كلها بصيغة وجدانية

<<  <  ج:
ص:  >  >>