تؤثر في النفس. فهذه هي الصنعة اللفظية المحمودة لا الجناس والألاعيب اللفظية التي أولع بها معاصروه.
ويخاطب وينادي النظرة ويسأل مع النفي في قوله:
ذكرتكمُ ذكر الصبا بعد عهده ... قضى وطراً منه وليس بعائد
(فيا) نظرة لا تملك العين أختها ... إلى الدار مِنْ رمل اللوى المتقاود
(أمَا) فارق الأحباب قبلي مفارق ... ولا شيَّع الأظعان مثليَ واجد؟
ففي هذه الأبيات استخدم الإخبار ثم النداء ثم الاستفهام المنفي، وهذه صيغ لفظية وصنعة لفظية لا يحسُّ القارئ أنها صنعة؛ وهي صنعة الطبع التي تُقْنع الوجدان، ويتفنن الشريف ويفتن في مناجاته ومناداته الوجدانية فينادي وقفة الأحباب فيقول: (يا وقفة بوراء الليل أعهدها الخ) وينادي بؤس القرب القصير من الأحباب الذي يعقبه الفراق الطويل فيقول:
فيا بؤس للقرب الذي لا نذوقه ... سوى ساعة ثم الفراق مدى الدهر
وينادي نفسه ويشجعها على تحمل آلام الحياة ومتاعبها فيقول:
يا نفس لا تهلكي يأساً ولا تدعي ... لَوْكَ الشكائم حتى ينقضي العُمُرُ
وينادي الشباب فيقول:
فمن يك ناسياً عهداً فإني ... لِعَهدِكَ يا شبابيَ غير ناسي
فإن العيش بعدك غير عيش ... وإن الناس بينك غير ناس
وينادي بؤس نفسه في الغزل فيقول:
يا بؤس مقتنص الغزال طماعة ... ذهب الغزال بلب ذاك القانص
كالدرة البيضاء حان ضياعها ... مِنْ بَعْدِ ما ملأت يمين الغائص
ما كان قربك غير برق لامع ... وَلَّى الغمام به وظل قالص
أغدو على أمل كحبك زائد ... وأروح عن حظ كوصلك ناقص
وينادي الحبيب صاحب القلب الصحيح الخالي من الهوى فيقول:
يا صاحب القلب الصحيح أما اشتفى ... ألم الجوى من قلبيَ المصدوع
ولاحظ أنه لم يكتف بصيغة النداء في (يا) بل قرن إليها صيغة الاستفهام المنفي في قوله (أَمَا). وهي ألفاظ إذا جاءت في كتب النحو كانت ميتة، ولكنها هنا تثبت حياة كالسمك عند