للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لقد أوشك فجره الأول أن يطلّ على الدنيا، وأنا حانٍ على مكتبي - أفكر منذ ساعات في أشياء لا أستطيع أن أصفها أو أعبر عنها أو أحصيها - والليل ساكن تتردد بين جوانحه أنفاس السحر وأنا أنظر من غرفتي إلى صحن المسجد (مسجد أبي حنيفة في الأعظمية) فأراه مشرقاً بالنور، مترعاً بالجلال، ولكنه خال من الناس. وأنظر إلى صحن المدرسة (دار العلوم الشرعية) وحديقتها الخالية، الحالية بأشجار الموز والنخل والورد والغرفة بينهما لها إلى كل من الصحنين باب. . . أريد أن أكتب (مقالة العام الجديد) فلا تواتيني الأفكار، ولا تتوارد عليَ الكلم، وصدري أغنى بالمعاني منه في الأوقات كلها، ولكن ازدحام المعاني على الفكر، وتكاثر الصور في الصدر، يعيق المرء عن الكتابة كما تعيقه قلّتها، كالذي يريد أن يملأ الكأس من (السبيل) إن كان جافاً أو نزراً قليلاً لم تمتلئ الكأس؛ وإن كان الماء يهدر وينحدر بقوة ويتدفق من فم الأنبوب مندفعاً، تطاير الماء إلى كل جانب، ولكنه لا يستقر في الكأس منه شئ - لأن كل قطرة تطرد أختها - كما تزيح كل فكرة في رأسي الفكرة التي قبلها لتحلّ في مكانها. . .

ولقد طالما وقفت هذا الموقف، ففكرت في الزمان وتفلسفت، وعدت إلى ماضيّ فحزنت، وفكرت في المستقبل فأيست، ثم رأيت ذلك باطلاً كلّه، كله باطل! لا الماضي يعود ولا الحاضر يدوم، ولا المستقبل يأتي. تفنى اللذاذات وتذهب الأحزان، وتمرّ الأيام بنا في طريق القبر حتى نبلغه، فتكون خاتمة المطاف هذه الآلام التي نودّع بها الدنيا، والتي تنسينا كل لذة، وكل متعة استمتعنا بها. . .

ويا ليت الموت هو الغاية!!

إن الموت بداية لذة لا آخر لها، أو ألم ماله من نهاية. . .

فأين نحن؛ وفي أي وادٍ من أودية الضلال نتخبط؟

اللهم إني أتوجه إليك في هذه الساعة لتصلني بك، وتدلني على الطريق إليك، حتى أعرفك فلقد عرفت أن كل شيء سواك باطل!

ما الحياة، ما هذه الفترة القصيرة من الزمان السرمدي؟ وما الزمان في جنب الله الباقي؟ وما الجمال الدنيوي، وما الحب الأرضي؟ وما العلم؟ أليس العلم كلّه إدراك سطر واحد من سفر الوجود؟ وكشف حفنة واحدة من رمال الصحراء؟ فما أجهل العلم إذن بالوجود! وما

<<  <  ج:
ص:  >  >>