ذلك النور الباهر، تذيق النفس حلاوة الآخرة في الدنيا لتسعى لها، وترغب فيها.
قابل بين هذه اللذائذ الروحية وبين اللذات المادية. . . الطعام والشراب. . . إنك لتشبع فتصير لذة الطعام في نظرك صفراً، والنساء. . . إنك لتتصل بهن حتى تأتي عليك ساعات، ولهن أبغض إليك من كل شيء. على أن هذه الصلة لا تروي غليلاً، ولا تشبع للنفس جوعاً. إن المحبّ ليحس وهو يعانق من يحب ويشد عليها بذراعيه أن بينه وبينها بعد المشرقين، وأنه ليس في الدنيا صلة مادية تطفئ غليل المحب. فيا بؤس من قنع بالحياة المادية، وحرم من لذائذ الروح!
ويا ويح من يفكر بما وراء المادة، وما بعد الحس، يا ويحه! أليس في أثناء نفسه ذكرى؟ أما فيها أمل؟ أليس بين جنبيه روح؟ فكيف ينكر روحه وأمله وذكراه؟ أيجحد ما دليله في نفسه (أفلا تبصرون؟)
وكان الفجر يؤذن، فخرجت إلى المسجد، وللمسجد في ساعة الفجر روعة وجلال وأثر في النفس لا يدركه البيان. ولمسجد أبي حنيفة أوفر نصيب من ذلك، وأشهد أني لم أجد في بغداد كلها مكاناً أحس فيه الاطمئنان وأشعر فيه بالخشوع والتجلي كهذا المسجد، لا لمكان أبي حنيفة منه، فان أبا حنيفة لا يضر ولا ينفع، ولا يكون مؤمناً من يرى فيه ذلك، أو يتخذ من قبره صنماً يعبده ويتمسح به، ولكن الله قد خصّ هذا المسجد بهذه الروح لإخلاص أبي حنيفة الإمام الأعظم، وعلمه وأثره في الفقه الإسلامي، وإجماع المسلمين على محبته وإجلاله!
هنالك عرفت الحقيقة الكبرى في الحياة، فلن أسأل بعد اليوم: لماذا خلقت؟ ولن أعيش في حيرة، فيا رب لا تنسني هذه الحقيقة بترهات العيش، وأحلام الأدب، وضلالات العلم. إن هذه الحقيقة شمس ساطعة، ولكن سحابة صغيرة قد تحجب الشمس عن عيني الضعيفتين. اللهم إني قد فرغت (أو كدت) من شهوة الغنى، وتلك الشهوة الأخرى، فهب لي الخلاص من شهوة الأدب، وحب الشهرة، وغرور الفكر فان ذلك أشد علي. . .
اللهم لك الحمد، وإليك المآب، وأنت الحي الباقي، فصلنا بك، ودلنا على الطريق إليك!