فإذا جاء إلى الدنيا وصار رجلاً، نسى حياته الأولى وكذب بها وقال: إن هي إلا دنيا فيها نموت ونحيا. . . فإذا خبره الرسل أن هناك حياة أخرى: حياة ثالثة، وأنها هي دار البقاء، وأن فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وأن غايته بلوغ تلك الحياة في طاعة الله وعبادته. . .
إذا خبر بها كذب به كذب ذلك الجنين. . .
أفتكذب أنت بذلك؟
قلت: لا
قالت:(فتلك إذن غاية الحياة) أن تتصل بالله وتعبده، وإن تعد نفسك لحياة الخلود
وعادت النفس تقول:
أن غاية الحياة تتحقق كلها في الصلاة. فالصلاة اتصال بالله، واستعداد لحياة الخلود. ثم إنها لذة لا تعدلها إذا أقيمت على وجهها لذة من لذائذ الدنيا، ولذلك عدّها النبي صلى الله عليه وسلم حين عدد اللذائذ: الطيب والنساء والصلاة، ليدل الناس على أنها من جنسها، وأنها راحة للنفس ومتعة، وليست تكليفاً شاقاً، ولا (مهمة) صعبة، وليست الصلاة ركوعاً وسجوداً، ورياضة فان ذلك جسمها، والجسم لا يقوم إلا بالروح، فإذا خلت منها الصلاة كانت صلاة ميتة، لا تنهي عن فحشاء ولا منكر، ولا تشعر بلذة. أما روح الصلاة فهي أنك إذا طهرت أعضاءك بالماء، طهرت نفسك بالتوبة، وذلك هو الوضوء الحق؛ وإذا قمت إلى الصلاة وقلت: الله أكبر، خرجت من دنياك، وارتفعت عنها كمن يرتفع في طيارة، حتى تراها - كما هي في الحقيقة - ذرة صغيرة تافهة. . . ولم تخش عدواً، ولا شغلك حب حبيب ولا ملأ نفسك هم ولا غم، ولا لذة ولا متعة، لأنك تتوجه إلى الله، والله أكبر من ذلك كله، وبيده كل شيء، فأنت كمن يتصل بالوزير أو الحاكم المطلق، (ولله المثل الأعلى) فهل يفكر بين يديه بحاجة له عند موظف صغير، ويشتغل بذلك عن حديث الحاكم أو الوزير؟
فالصلاة تحقيق لغاية الحياة، والحياة لحظات في (الحياة الأخرى)، ولكن هي اللذة التي لا يقدر لغات البشر على وصفها، ولكن الناس يرون منها بروقاً خاطفة في ساعة من ساعات السحر، ولحظة من لحظات العبادة، أو. . . أو سكرة من سكرات الحب، أو عندما يسمعون نغمة، أو يقرءون شعراً. هذه اللحظات هي التي تدلنا على ذلك العالم. هي أشعة ضئيلة من