وأبيتْ أن أخفض عن نفسي أو أرُدّ غلواءَها، فرددتُ المالَ إلى صاحبه غير منقوص ولا مهتضم. وقلتُ إن أمراً قضاهُ الله لا بُدّ له من تمامٍ وأجلٍ، وما شاءَ الله كان وما لم يشأ لم يكنْ. وخيرُ الأمر أن ألجأ إلى الله ثم أستعين بما عندي على قضاء الحق الذي يقتضيه ما أقررت به على نفسي، وما أقررتها عليه في كلمة العدد الأول من (العصور). فلم أبخل ولم أتراجع، وأقدمتُ على إصدار العدد الثاني مستبشراً مؤملاً راجياً معتمداً على ثقتي بالله، ثم ثقتي بحسن التقدير الذي لقيته. فلم يلبث أن لقيَ العدد الثاني من (العصور) حفاوة الناس في كثير من بلاد العربية؛ ولكن هذه الحفاوة المستبينة في بيع مجلة - تكاليفها أكثر من دخلها بهذا البيع - لا يمكن أن تكونَ هي الرُّقية التي تجذب إلى رقاب المال من كهوف (البنك) فأجويها وأروضها وأتصرَّف فيها تصرُّف الناس فيما هُمْ به (ناس)!!
وقلت: عسى أن يقضي الله لأمر ضاق بالفرج، وتوجهت بقلبي إلى الله، وبوجهي إلى من أتوسم فيه سمة (الخزانة) المعدة لاحتجان المال. ولكني وجدت القفل بعد القفل على الخزانة، وافتقدت المفتاح الذي يتسنى له كل مغلق. إن هذا المفتاح ليس عندي، ولستُ أملكه، وما احسبني أرتضي - بعد أن جرَّبتُ - أن أملكه أو أَحوزه. إنه لا يملكه إلا من قدّم رهينةً، والخُلُق لا يُعترف به في باب الرَّهائن، ولستُ أملكُ غيره؛ فلا رهينةَ، أي لا قَرْضَ ولا معونة. وإنه لا يملك المفتاح بعدُ إلا اللصُّ الذي يلين له ما أعضل من قُفْل غُلِق وأنا بحمد الله لم أُخْلَق على طبيعة السارق بل سُوِّيتُ على هيأة المسروق، كلّ من شاء أن يأكلني أكلني؛ قد رضيتُ أن أحوطَ جوهري بالعَرَضِ المُضيَّع.
ومع ذلك فقد أعددت العدد الثالث للطَّبْع، وتصرَّفتُ في وجوه التدبير، ثم وُفّقت إلى من أرضى عنه ويرضى عني. . . ولكن أبى خُلُق الدُّنيا معي أن يتم جميل تستودعينه، أو معروف ترّببه عندي. فرجعت عَودي على بدئي راضياً عن الله شاكراً لله واثقاً بالله، أستعينه وأستحفظه، واشكره ولا أكفره.
لا أقول الله يظلمني ... كيف أشكو غير مُتَّهم
وأنا لا أزال أقول: يَصنَعُ الله، يَصنَعُ الله، إن لله تدبيراً يصرّفنا به كيف شاء إلى مواقع