في هذا المحل مدينة من المدن القديمة جداً فقد وجد آجراً مكتوباً عليه سم بختنصر ولقبه، كما وجد في خرائط الآشوريين الجغرافية اسماً لمدينة يقرب من اسم بغداد.
وقد كانت تقام في قرية بغداد الفارسية أثناء حكم الساسانيين سوق شهرية اشتهرت كثيراً في صدر الإسلام، إذ هاجمها المسلمون سنة ١٣ للهجرة وغنموا كثيراً من الذهب والفضة ثم لم يعد يظهر اسم بغداد في التاريخ حتى سنة ١٤٥ للهجرة حين أخذ المنصور يفتش عن موقع لعاصمته الجديدة، وقد كان في هذا الموقع لذلك الحين عدد من الأديرة وخاصة أديرة الرهبان النسطوريين، ومنهم عرف المنصور خلو هذا المحل من البعوض الذي يكثر في المحلات الأخرى من دجلة، وأن لياليه باردة حتى في الصيف وكانت هذه المميزات بلا شك مما أغرى المنصور على اختيار هذا المكان موقعاً لعاصمته.
وقد أطنب مؤرخو العرب وجغرافيوهم، في الكلام عن فوائد موقع بغداد المتعددة، فيذكر لنا المقدسي مثلاً أن الخليفة انتصح بقول ساكني هذا المحل، ولخص في الأسطر التالية الكلام الذي خوطب به المنصور (الذي أرى يا أمير المؤمنين أن تنزل أربعة طساسيج (مقاطعات) في الجانب الغربي طسوجان، وهما قطريل وبادرابا، وفي الجانب الشرقي طسوجان، وهما نهر بوق وكلواذى فأنت تكون بين نخيل وقرب الماء فإن أجدب طسوج وتأخرت عمارته، كان في الطسوج الآخر العمارات، وأنت يا أمير المؤمنين على الصراة تجيئك الميرة في السفن من المغرب في الفرات، وتجيئك طرائف مصر والشام، وتجيئك الميرة في السفن من الصين والهند والبصرة وواسط في دجلة، وتجيئك الميرة من أرمنية وما اتصل بها في تامرا حتى تصل إلى الزاب، وتجيئك الميرة من الروم وآمد والجزيرة والموصل في دجلة. وأنت بين أنهار لا يصل إليك عدوك إلا على جسر أو قنطرة، فإذا قطعت الجسر وخربت القناطر لم يصل إليك عدوك، وأنت بين دجلة والفرات لا يجيئك أحد من المشرق والمغرب إلا احتاج إلى العبور، وأنت متوسط للبصرة وواسط والكوفة والموصل والسواد كله، وأنت قريب من البر والبحر والجبل).
إن التبصر الذي أظهره الخليفة المنصور في اختيار موقع بغداد يظهر جلياً في تاريخ بغداد الأخير، فقد توسعت هذه المدينة توسعاً كبيراً حتى كانت المدينة الثانية بعد القسطنطينية في العصور الوسطى ولم يكن لها نظير في جلالها وعمرانها بين مدن آسيا الغربية، ولم