موقوف إلى حد ما على التغيير وترك القديم للحديث، فليس هذا شأن العالم، غذ أنه مثل الرجل العادي على حد سواء يسعى دائماً لتبسيط المسائل وليس له مصلحة في التعقيد. والواقع أنه إذا كان قد وصل الآن إلى مثل هذه الصورة المقعدة للعالم فان ذلك لأنه أراد أن يعرف للعالم حقيقته ويتوغل نحو المعرفة لأقصى الحدود.
على أنه في هذا المجهود الذي يقترب فيه رويداً رويداً من حقيقة الكون وسر الوجود والذي يرسم لنا فيه صورة للعالم أكثر انسجاماً من صورته الأولى، يعمل لتقدمنا إلى الأمام كجنس سوف يختلف فيه الإنسان القادم عن الحالي، كما اختلف الإنسان الحالي عن القردة.
ألم نكشف النار وظلت تجهلها القردة؟ ألن نصنع لأنفسنا طوبة أمحوتب وظلت في الكهوف؟ ألم نكشف أخيراً الكهرباء وإشعاع المادة وتهدم الذرة؟ ألم نعرف القاطرة والطائرة، والتلفون والتلغراف، والمصباح وأنبوبة النيون، والراديو والتلفزيون؟
لقد كلفتني هذه المقدمة والتفكير في المقالات التي تليها قراءة عشرات الكتب وحضور الكثير من المحاضرات فطالعت دي بروي وبران وفابري ومليكان وسودي وإدنجتون وجن ومارسل بول وريشنباخ وغيرهم ممن حاولوا بجانب أعمالهم العلمية أن يقوموا بدور تبسيط العلوم. وقد اعتزمت أن تكون مقالاتي أكثر في التبسيط من هؤلاء، ولكني أرجو ألا أذهب في التبسيط إلى الحد الذي تُقتل فيه الموضوعات وتتهدم فيه فائدة القراء. ولا أدري ماذا كان وقع هذه الكلمات على القراء، فهم أدرى بها مني، وهم الذين يقدرون إن كان هذا التبسيط كافياً. ولا تظن بعد ذلك أنني سأتحدث في المقال القادم في أول درس في الزمن حسب ما يراه إينشتاين، أو الحيز حسب ما يفهمه ريمان، أو أحدثك عن كون يتمدد وفق آراء (دي ستير) وملاحظات هبل أو أدخل بك في الذرة وتهدمها اليوم تحت معاول العلماء مما سيكون موضوع أحاديثي القادمة، ولكني أرجو أن تسمح لي أن أتمم هذه المقدمة التي آمل أن يكون منها فائدة، فأتحدث أولاً عن الطريقة التي يشتغل بها العلماء. ما هي منابعهم؟ ما هي طرائق العلم الحديث؟ فأفرق بين العلم النظري والعلم التجريبي.
وفي هذا سأنتزع كل ما أمامي من الكتب والمؤلفات فأدعها جانباً لأني وقد قضيت زهرة العمر في المعامل، وفي معامل البحث يصح أن أتحدث عن الوسائل الحديثة التجريبية، وأفرق بين عالم التخمين وعالم الحقيقة، وأدل القارئ - كيف يسيطر العلماء اليوم على