الدقة في الربط بين المعنى وبين لبوسه من اللفظ، ولكنه كان أنيقاً مترفاً لا يقول إلا بدافع النفس ورغبة القول؛ ثم لم يكن يعنى بتدوين كل ما يقول. ومن ثم لم يبلغ ديوانه في الحجم مبلغ دواوين رصفائه مثل البارودي وشوقي وحافظ ومطران وعبد المطلب. على أنه قد راد كل أبواب الشعر التي كانت مطروقة في أيامه، فقال في المديح والتهاني والتقاريظ وهي أكثر من ثلث الديوان، وقال في الهجاء وهو لا يتجاوز الصفحتين، وقال في الفكاهات وفي الغزل والذكرى والتشوق وفي ذلك كل عبقرية صبري وشاعريته، وقال في الوصف والاجتماعيات والسياسيات والإلهيات والمراثي والأناشيد، وعلى هذا الوضع جرى الأستاذ الزين في تبويب الديوان. وقد عني بترتيب القصائد في كل باب ترتيباً تاريخياً مع بيان المناسبات والدواعي التي قيلت فيها كل مقطوعة، وهذا في الواقع ترتيب جميل، إذ به نستطيع - كما يقول الدكتور طه - أن نتتبع النشأة الفنية لهذا الشاعر، وأن نتبين ما اختلف على شعره من الأطوار في غير مشقة ولا عناء، وهو من هذه الناحية درس قيّم لنشأة الفن الشعري عند شاعر ممتاز، ومن الخير أن يعرض هذا الدرس على الشباب.
ولا شك أن الأستاذ الزين قد وفّق كل التوفيق في إخراج هذا الديوان الجميل، فضبطه وشرحه على أتم وجه وأكمله. ولقد جهدت أن أحصي شيئاً على صديقنا الزين أغيظه به، فغاظني هو ببراعته وقدرته، وإني لأقر بذلك في غبطة وسرور. وإنما وفق الزين إلى هذا الحد، لأنه - كما يقول الأستاذ أحمد أمين - قد عاشر الشاعر وصادقه سنين طويلة، فسمع منه، وحقق الطريقة القديمة القويمة في الرواية عنه والمشافهة له، فمكنه ذلك من إيضاح ما غمض، ومعرفته الصحيحة بجوّ القصائد وأسبابها وبواعثها. ثم كان من مخالطته للشاعر ووقوفه على دقائق نفسه وما يوائمها وما لا يوائمها، ما ألهمه الصواب في الشرح، والتوفيق في الترجيح، إذا تعددت المسالك وكثرت الاحتمالات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الأمر كما يقولون: لا يفهم الشاعر إلا شاعر، والزين شاعر من طراز صبري ومن مدرسته كما يعبرون، فكان بهذا خير من يفهم صاحبه وقريعه، وخير من يرعى شعره هذه الرعاية الحميدة، ويشرحه هذا الشرح الدقيق الموفق.
قد تقول: وماذا يكون في شرح شعر صبري من العناء، وشعره ليس بغريب اللفظ، ولا بعيد المعنى كما هو شعر حبيب وأبي الطيب والمعري وأضرابهم، بل الرجل ظاهر في