وذوي الإقدام. والفرق بين الفيلسوف والزعيم أن الفيلسوف كثير التأمل، والتأمل يؤدي إلى الشك، والشك ينتهي بصاحبه إلى السكون دون الحركة، لأن الحركة لا تصدر إلا عن تصميم الإرادة وهو ثمرة اليقين؛ أما الزعيم فلا يتأمل لأنه لا يشك، وحينئذ لا يركن إلى السكون؛ وإذن تكون قوة الإرادة للزعيم أنفع من سلامة الرأي وصدق النظر وحسن التبصر في العواقب، ولكن الذي يفقده الزعماء من تلك الناحية تعوضه عليهم قوة اعتقادهم في سلطانهم على الجموع وتلك الجموع لا تصغي إلا لذوي الإرادة النافذة الذين يتسلط عليهم العقل الباطن ويملك زمامهم. فإذا ما أصبح صوت الزعيم مسموعاً من جماعة، اندمجت إرادتها في إرادة الزعيم وتناست شخصيتها والتفت حول الزعيم ذي الإرادة المتحدة. يسألون عن الطغيان والجبروت والاستبداد كيف نمت في البيئات الدكتاتورية والزعامة في أول أمرها لا تحتاج إلى الاستبداد أو الطغيان، والمشاهد أن الذين قاموا بأدوار الطغاة أفراد من المؤمنين الضعفاء الذين ليس لهم حول ولا طول سوى العقيدة والإيمان. فإذا ما وصل الزعيم إلى غايته احتاج حتماً إلى الاستبداد ليستبقيها.
ويعتمد الزعماء من هذا الطراز في تبليغ دعوتهم على الكلام والخطابة والكتابة، وزعماء العالم اشتهروا بالفصاحة وقوة التأثير في الجماهير. وعمدتهم على تكرار جوامع الكلم لترسخ في أذهان سامعيها. وإذا رجعنا إلى خطب زعماء الفاشية والنازية فلا نجد إلا نفس المعاني أفرغت في قوالب شتى لعلمهم بغريزتهم وإدراكهم الباطني أن التكرار يترك أثراً عميقاً في أذهان الخاصة والعامة على السواء. فالزعيم حاذق في حفر فكرته في أذهان أتباعه. وتبدأ الأفكار في الطبقات النازلة ثم ترتقي إلى الطبقات الوسطى فالعليا مثل انتشار أفكار الثورة الفرنسية وارتقائها من طبقات الشعب إلى الوزراء والعلماء. وكذلك الأديان فإنها تنتشر أولاً عند المظلومين والمحاويج والمحرومين والمعوزين إلى استعادة الكرامة والحقوق، وهذا سر انتشار النصرانية والبوذية بين الضعفاء والفقراء. وقد سادت الاشتراكية أولاً طبقات العمال حتى وصلت إلى العظماء فصار منهم اشتراكيون متطرفون. وكان عدد الذين دخلوا في زمرة الإسلام من الأغنياء والكبراء محدوداً ثم أقبل عليه كل فقراء الجزيرة العربية وعاصمتها الوثنية (مكة) لأنه كان في أول أمره دين مساواة فاستظلوا بسلطانه. وقد أدت الأحوال الطارئة في أوربا، وضعف الحكومات في بعض