نترك الإجابة مؤقتاً عن هذا التساؤل لنتعجل القول بأنه يعرض بادئ الأمر لمن يتساءل هذا التساؤل حقيقة واقعية تفرض نفسها فرضاً، هي إن العلم على اختلاف أنواعه كعلوم الطبيعة والرياضة والمنطق والنفس والاجتماع والحياة والتاريخ، لا يعارض الأخلاق ولا يحل محلها بل يتطلبها
العلم لا يعارض الأخلاق، لأن العقل العلمي يدفعنا إلى معرفة الحقائق على ما هي عليه وفهمها دون أن نعتمد في بحثنا على أية فكرة أو نظرية لم تمحص بعد تمحيصاً كافياً. لكنه لا يمنع أن نقابل بين الواقع وبين ما يجب أن يكون، معرفة الواقع والحقائق العلمية لا تحول بيننا وبين أن يكون لنا مثل أعلى أخلاقي يسمو على ما تعارفه الناس جميعاً
كذلك العلم لا يحل محل الأخلاق ولا يغني عنها. العلم يعرفنا الواقع فحسب في مختلف مناحي الكون ومظاهره، ولا يُعنى البتة بما كان يجب أو بما يجب أن يكون. هو يتحقق لكن لا يحكم. كل العلوم التي أشرنا إليها وأمثالها - ومنها علوم النفس والتاريخ والاجتماع - لا تمدنا بمبادئ للسير والسلوك، ولا بقاعدة نهتدي في أعمالنا بهديها. لكنها في الوقت نفسه لا تريدنا على أن نمتنع عن طلب هذه المبادئ خارجاً عنها
علم الحياة مثلاً يرينا أن الأنواع الحيوانية في تقاتل مستمر، وأن الحرب بينها سجال، وويل للمغلوب فيها لأنها حرب الحياة أو الموت. القوي يفترس الضعيف، والغلب والبقاء للقادر على تعديل نفسه حسب البيئة التي يعيش فيها. هذا هو قانون الحياة بين أنواع الحيوان؛ فهل لنا أن نتخذ ذلك مبدأ لنا في أعمالنا؟ هل مما يتفق مع الأخلاق النبيلة أن نقرر أن الناس - كسائر الحيوان - يجب أن يصدروا في أعمالهم عن مبدأ تنازع البقاء، وبقاء الأقوى؟ أو الخير في أن نحكم أنهم على العكس من هذا يجب أن يتساعدوا، وأن يحترم الأقوياء حقوق الضعفاء؟
وهاهو ذا علم النفس يكشف لنا عما يتركز في طبائعنا من ميول وشهوات وعواطف مختلفة، منها عاطفة الأثرة وعاطفة الإيثار. أليس لنا أن نعطي لكل من هذه الميول والعواطف قيمته الأخلاقية؟ كذلك علم الاجتماع، وقفنا على ما كان من حرب وتطاحن بين العالم في العصور المختلفة القديم منها والحديث. هل هذا التحقق العلمي يكفينا للبت في