للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

دهشة حيرى وقالت:

- مهلاً حتى أريك غرفتك، وحذار أن تظن بي شراً، فأنا براء من هذه العقيدة، ولكني أحرص على راحة عملائي، ومنهم من يعارض أشد المعارضة لوجود رجل ملون في الفندق، ويهدد بالرحيل، وتشويه سمعة المنزل، وأكثرهم في ذلك لجاجاً وغلواً ضابط متقاعد، رأى الشرق عن كثب، ودأب على ذكر نقائصه، وعورات أهله، وأنهم ليسوا إلا همجاً لم يشرق عليهم نور المدينة بعد، وأن سكناهم معنا مدعاة لتعكير صفو حياتنا وهنائها إذ لكل إنسان عادة لا يستريح إلا لها. أما أنا فمن أصل فرنسي، وفي ديارنا لا يعيرون هذه الفروق الجنسية اهتماماً، بيد أني مضطرة لمجاراتهم، مادمت قد اخترت هذه البلاد موطناً لي، واخترتهم عملاء لفندقي، فلعلك مقتنع بفكرتي. وحين أسمح لك بالمبيت هاهنا لا أرجو إلا شيئاً واحداً، هو أن تتحاشى رؤية هذا الضابط، وسأرسل طعام الفطور بغرفتك.

- شكراً لك يا سيدتي، غير أنك أثرت في نفسي شعوراً ليس من السهل علي إهماله، ألا وهو محادثة هذا الضابط.

- ليس إلى ذلك من سبيل.

- سنرى.

وانطلقت إلى غرفتي أشد ما أكون تعباً وإعياءً، ولم أكد أنتهي من خلع ثيابي، والاستلقاء على السرير حتى أتت السيدة بكوب من اللبن، وقالت في رفق:

- إنك مريض، ولعلك بحاجة إلى دواء، فهل لي أن أقوم بأية خدمة؟

- شكراً يا سيدتي، فالدواء عندي، وسأتناوله بعد هنيهة، عمي مساءً، وسأراك غداً.

فكرت ملياً فيما رأيت وسمعت، ثم غلبني الإعياء فنمت، وما إن لاحت تباشير الصباح حتى نهضت، وأنا أحسن من البارحة حالاً، وأهدأ بالاً، غير أن النعرة القومية عاودتني، فأذكرتني مأساة أمس، وأن واجبي هو تبديد هذه الأوهام والأباطيل من عقول هؤلاء المرضى بحمى الغطرسة والكبرياء، وإقامة الدليل لهم على أن المصري، وإن تكن السياسة قد جارت في حكمها عليه، إلا أنه أبي ذكيٌ ليس من اليسير أن يسكت عن ثأر في ميدان الكرامة، أو يصمت عيا في ميدان الدفاع عن القومية. فلبيت نداء حسي وشعوري، وارتديت ثيابي على عجل وأسرعت إلى غرفة الطعام، والقوم لا يزالون نياماً، وأخذت

<<  <  ج:
ص:  >  >>