ألهو بقراءة جريدة حتى مضى بعض الوقت، فأخذوا يغدون ويحيون، دهشين، متعجبين، وأنا أرد تحيتهم في برود مصطنع يخفي تحته نفساً ثائرة على هذا الجهل بمنازل الناس وقيمهم، وعلى هذا النفاق والرياء.
وأخيراً دخل الضابط ورد تحية الجلوس، وأجال في الغرفة نظره فلمحني، وظننت بادئ ذي بدء أن وجهه سيتجهم وأنه سيتمتم ويدمدم، ويثور ويفور، ولكنه حيا ببرود وجلس، فجلست تجاهه على الخوان، وأخذنا نتناول طعام الفطور في صمت، وكأننا في مأتم، وهممت بالحديث مراراً غير أن الرهبة عقدت لساني فلم أنبس ببنت شفة. وبعد لأي سنحت الفرصة، فقدمت ربة الدار، ووزعت على الجميع تحاياها وابتساماتها، ولم تظهر امتعاضاً لوجودي بل سألتني كيف قضيت ليلي؟
- على خير يا سيدتي، شكراً. إني ليسرني أن أتعرف بجندينا الذي ذكرته أمس، فهل تتكرمين بتقديمي له؟
- بكباشي سمث. صديقنا هذا من مصر، وقد حدثته عنك أمس، وأنك زرت بلاده، وعرفت أهلها وحدثتنا طويلاً عنهم.
فأجاب الضابط في فتور.
- هذا حسن، وأومأ إليَّ برأسه، فقلت:
- إني ليسرني أن أتشرف بمعرفتك يا سيدي، ولقد أنبئت أن لك رأياً خاصاً في الشرق والشرقيين، يحملك على الأنفة والترفع عن مخالطتهم، ولو سمحت وبينت لي هذا الرأي لكنت لك من الشاكرين.
فألقى على ربة المنزل نظرة كلها تعنيف وتأنيب، ولاح عليه بعض التردد، غير أن بقية الزوار حثوه على الكلام قائلين: دعنا نسمع رأيك، والرد عليه، فطالما حدثتنا عن الشرق أحاديث تقشعر منها جلودنا، ولم تجد بيننا من يدحض رأيك أو يعترضك، وها قد سنحت الفرصة لمعرفة الحق.
فكرر ما قالته ربة البيت ليلة أمس، وزاد أن الشرق لا يصلح إلا وعنانه بيد الغرب، وأن الشرقيين لم يخلقوا للمدينة الأوربية، والأولى بهم الاستمساك بعاداتهم الهمجية، وترك التقليد الأعمى، وأما مسألة الترفع فذلك أن لكل قوم عادة، وليس توافق العادات بالأمر الهين؛ ثم