للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إن مركزنا الأدبي في العالم يقتضي أن نترفع عن الشعوب الملونة، ونشعرهم بمكانتنا التي لا تسامى حتى ندخل في قلوبهم الروع والرهبة، وحتى نعودهم الصغار والذلة. وتلك سياسة رجال الجيش البريطاني في المستعمرات، وإن لم نفعل ذلك تجرأ علينا الأهالي؛ وذهب سلطان الحكم وجلاله.

- آه! الآن عرفت الحقيقة، إذاً لا يوجد هناك تفوق في الذكاء كما لا يوجد تفوق في ميدان الحضارة والاستعداد لتقبلها، ولكن المسألة استعمارية بحتة. إن كان الأمر كذلك، فإني أتنبأ لإمبراطوريتكم بالزوال العاجل. إن هذا الترفع، وهذه الكبرياء تبعد بينكم وبين تفهم نفسيات الشعوب المحكومة، وتجعلها دائماً تشعر بأنكم أجانب، وتملأ قلوبهم قيحاً، وتشحنها غيظاً، وتحرك في نفوسهم نار الثورة الهامدة، فيهبون لطردكم والتنكيل بكم. لم لا تحتذون حذو العرب، وقد أسسوا بنيان ملكهم على قواعد من المساواة والمحبة والإخاء، ولذا تشرب المحكومون تعاليم دينهم ومدينتهم وتعلموا لغتهم، واندمجوا فيهم. لست هنا لأعطيك والحكومة البريطانية درساً في فن الاستعمار، ولكن الاستعمار في رأيي ورأي العقلاء، ليس استعباداً، اللهم إلا في رأيكم أنتم.

- مرحى، مرحى!! هكذا هتف بقية الزوار، ماعدا الضابط الذي وجد فيَّ مجادلاً يكيل له صاعاً بصاع ويقرع الحجة بالحجة. ثم استأنفت الحديث منتهزاً فرصة صمته:

- يخيل إلي أنك لم تعرف المصريين حق المعرفة، وإلا كان حكمك عليهم غير ما سمعت، ليست القضية يا صديقي، قضية تفرقة في الألوان، فهاهي ذي اليابان قد بزتكم في ميدان الصناعة وغزت دياركم بمنتجاتها ومخترعاتها، ولولا عهد الأتراك بمصر، ولولا تدخلكم في شئوننا، لكنا اليوم أمة لها في ميدان العلم والنور شأن رفيع. على أننا لم نيأس بعد، وسوف تسمع اسم مصر يكتب في سجل الخلود بماء من ذهب ونور. ثق تماماً أن المصري يفوقك في الذكاء، وتفوقه في القوة المادية، أما (اللون) فكلنا من آدم، وآدم من تراب، وكتبكم المقدسة على ما أقول شهيد. لست أريد إقناعك، ولكني أرضي كرامتي، وعزة نفسي، وأعطيك درساً في احترام غيرك مهما يكن جنسه ولونه، حتى تخبره، وتعرف خلاله وتفكيره، والآن اسمحوا لي سادتي بالانصراف وأشكركم على كرم وفادتكم

غادرت المنزل واستوقفت سيارة ووضعت بها متاعي، وأخذت أبحث مرة أخرى عن

<<  <  ج:
ص:  >  >>