في مسح أسود، وعلى جبينه إشراق ونور وفي عينيه تواضع ورحمة.
أجابه عمر في صوت يختلج: (سيدي! عابر سبيل أضلَّ أصحابه فأوى إلى ظلك ساعة يستريح!)
سمع الراهب لحديث عمر ثم قال مبتسماً: (أحسبك لم تصدقني يا فتى؛ فإن في عينيك بريقاً ينبئ أنك هارب مذعور!)
ازدرد الفتى ريقه، واستطرد الراهب: (لا عليك؛ إن عندي مأوى صالحاً وطعاماً!)
وقاده من يده إلى الدير وأغلق الباب وراءه. . . . . .!
جلس عمر إلى مائدة شهية فأكل وشرب؛ والراهب بازائه يحدق فيه لا يكاد يطرف جفنه، وبينه وبين نفسه حديث طويل.
فلما فرغ من طعامه جلس إليه يتبادلان الحديث، حتى أنس عمر وثابت نفسه، وصمت الراهب برهة ثم عاد ينظر في وجه الفتى وهو يقول: (أئنك لأنت. . .؟)
وطارت نفس عمر، وتوزّعتْه الظنون، واستمر الراهب في حديثه: (. . . ألا إنه ليس في هذا البلد من هو أعلم مني بعلم أهل الكتاب؛ فإني لأكاد أوقن أنك الشخص الذي أعني: ستدول دولة الروم في الشام على يدي فتى مثلك؛ ويخفق عليها لواء دين جديد!)
لم يفهم عمر كلمة مما قال الراهب، ولكنه استمر يستمع له مدهوشاً ذاهلاً، وفجأة سأله الراهب: (ما اسمك يا فتى؟)
قال: (. . . عمر بن الخطاب، من بني عديّ!)
وهب الراهب واقفاً وهو يقول: (والله ما خدعتني فراستي. إنك لأنت هو؛ فهل تعاهدني. . .؟)
ثم أتى بقرطاس وقلم فدفعهما إلى عمر قائلاً: (اكتب. . . اكتب أنني جارٌ لك، لا عدوان عليّ في مالي ولا في نفسي يوم يئول أمرها إليك. . .!)
وفغر الفتى فاه دهشة لما يرى وما يسمع؛ ثم توجه إلى الراهب يقول: (سيدي، لقد أكرمتني وألطفتني ما لا مزيد عليه، فلا تسخر مني بعد!)
قال الراهب: (أظننت؟ لعمر الحق ما عنيتها، ولا عليك من شيء أَن تكتب؛ فإن كان الذي أتوقع فقد فعلت، وإلا فلن يضيرك مما تكتب شيء!)