للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

صريح، حتى أن أحد أخوال هذا الشاعر قد قتل وهو بين يدي ربه في المسجد العام فكان هذا الموقف الخطر داعياً إلى تنشئة أبناء الأسرة نشأة حربية باسلة ليستطيعوا أن يأخذوا من أعدائهم بالثأر ويردوا في نحورهم كيدهم ولهذا كان أول الدواعي التي حدت بشاعرنا إلى الشدو والغناء ذلك الشعور اقوي الذي كان يجيش في خلايا قلبه شعور العزة القومية والمجد والكرامة، وقد غرس فيه هذا الشعور طموحاُ وثاباً إلى مشارف العلا فظل يضرب على وتر الفخر والحماة بأروع الأغاني الشجية التي تبرئ صدر الجبان وتلهب عزيمة الشجاع المقدام، فشعره في ذلك مثل من أمثلة الأدب الحي القوي الذي ننشده اليوم في عصر انحلال الزائم وخمود الشهامة! وإذا شئت فترنم معه وهو يشيد بذكر قومه:

قوم إذا استخصموا كانوا فراعنة ... يوماً وإن حكموا كانو موازينا

تدرعوا العقل جلباباً فإن حميت ... نار الوغى خلتهم فيها مجانينا

إذا ادعوا جاءت الدنيا مصدقة ... وإن دعوا قالت الأيام آمينا

إذا جرينا إلى سبق العلا طلقا ... إن لم نكن سبقاً كنا مصلينا

تدافع القدر المحتوم همنتا ... عنا ونخصم صرف الدهر لو شينا

عزائم كالنجوم الشهب ثاقبة ... مازال يحرق منهن الشياطينا

ولم يقصر الشاعر همه على مجرد الفخر بهذه الإرادة التي تدافع القدر المحتوم وتخصم الدهر؛ بل كان بين قومه في منزلة الشاعر الجاهلي في قبيلته يشترك عملاً في تدبير سياستهم ويحرضهم قولاً على الحرب إذا ثلمت كرامتهم وينعى عليهم لو أحجموا يوماً عن أداء الواجب، وكأنما كان شعره جريدة (الحلة) القومية تشير عليهم كل آن بسديد الرأي وماضي العزم وفي نار هذه المواقع المشبوبة تلقى الشاعر دروساً من الحكمة جديرة أن توضع بين عيني كل من يحلم بالمجد أو يطمح إلى العلياء، فهو رجل عملي لا يؤمن بالحظ والخيال الكاذب، ولكنه يرى طريق النجاح مرصوفاً بالكد والعناء لا تذلله إلا الإرادة الجبارة والنفس التي لا تلين. وهو رجل نستنكف أن جري ماء الحياة بين جنبيه ثم لا يسعى ويقدم ويصعد حتى يدرك قمة الشرف والسمو، وكم يسخر ويثور على هؤلاء القوالين الذين يقتنعون بالألفاظ الرنانة والأصوات الجوفاء، ألا تراه يقول

لست ممن يدل مع عدم الجد ... بفضل الآباء والأجداد

<<  <  ج:
ص:  >  >>