عندك ولا مال، فليسعد النطق إن لم تسعد الحال) فمن ذلك الحديث نرى أن مدحه لم يكن نفاقاً أو رياءً يتخذه وسيلة للاستجداء والسؤال، وإنما كان نتيجة عاطفة محمودة هي عاطفة الشكر وعرفان الجميل. ويدل كذلك على أنه كان يفهم غاية الشعر حق الفهم ويؤمن بقدسيته الفنية، فكان يربأ به أن يكون عبد الغرض ورسول الحاجة ولا غرو فقد عرفنا صفي الدين شاعراً مطبوعاً لا مصنوعاً.
وإذا أحصينا المدائح التي نظمها وهي كثيرة مستفيضة ألفيناها تكاد تنحصر في أربعة مسالك: مدح الرسول وآله، ومدح الأسرة الارتقية المذكورة، وبني قلاوون، وبيت المؤيد، وكلها تسير على نمط متحد في عدم الوصول إلى المدح إلا بعد مقدمات طويلة في موضوع آخر يسترسل فيها ثم يبذل جهده في اختراع وسائل التخلص إلى غرضه. غير أنه كان يتصرف في أنواع هذه المقدمات بألوان شتى، فتارة تكون غزلاً وأخرى وصفاً لرحلة فتارة تكون فخراً أو خمراً، وقد تكون رسماً لمنظر طبيعي جميل، فكأن كل قصيدة منقسمة إلى شقين لكل منهما غايته وصورته ولا يلتقيان إلا بذلك الرابط الواهن الذي يسمونه (حسن التخلص)
وأوضح ما نراه في معاني المدح النبوي ظاهرتان تشير إحداهما إلى مذهبه والأخرى إلى خلقه: فقد عهدناه محباً مخلصاً لآل البيت والسلالة العلوية يذكرهم كلما ذكر النبي تقرباً إليه بأهله، ويناضل تحت لوائهم كل من عرض لهم بمذمة أو نقيصة، مردداً أنهم أجدر الناس بالخلافة، مسجلاً على بني العباس طغيانهم واغتصابهم لذلك الحق الثابت. وقد سأله نقيب الأشراف بالعراق أن يجيب عبد الله بن المعتز عن قصيدته التي غض فيها من قدر العلويين، فأجابه بقصيدة دامغة الحجة كأنها جدال علمي لولا ما فيها من صور العاطفة الثائرة. وهذه العاطفة الشيعية تدل على حقيقة تاريخية كبيرة، هي أن العلويين كانوا لا يزالون يثيرونه دعاتهم في العراق أملاً في أن يخلفوا العباسيين بعد زوال دولتهم.
أما الظاهرة الثانية فهي اعترافاته الخطيرة أمام النبي (ص) بما جنى في حياته من عبث وجور على الشريعة يصفها بأنها جرائم تندك منها الجبال، ولا نحسبها مبالغة منه لأنا نعرفها حقيقة ثابتة في خلقه، إذ كان حي لشيطان واهي الزمام في بيداء هواه يعطي لنفسه ما تشتهي ثم يعود إلى ربه معتقداً دائماً أن الله غفور رحيم، ولذا نظن أنه لم يفكر في هذا