المعاملة التي يلقاها المصريون. كان هذا سبباً من أسباب الثورة، إلا أن الثورة الفكرية كانت عنيفة في نفس كثير من المصريين. فإن البلاد كانت أوتيت قليلاً من العلم، وكانت تعاليم جمال الدين الأفغاني الذي نزل مصر سنة ١٨٧١ قد بدأت تزدهر. وظهرت الجرائد وكونت رأياً بين الخاصة، وكان الجيش وعلماء الأزهر أقوى هؤلاء. فكانت الثورة التي حمل لواءها عرابي باشا، وقد اقترنت الثورة بخليط معقد من العناصر. فقد كانت مسلمة، وقد كانت دستورية، وقد كانت تنفسن على الأجانب ما حازوه من سطوة، وما ينعمون به من متاع الوظائف وبسطة النفوذ
على أن الثورة العرابية لم تكن مستنيرة شُجاعة على الرغم مما انطوت عليه من عناصر. ذلك بأن العسكريين الذين ملكوا أزمتها لم يدركوا الخطر المحقق الذي تنطوي عليه خطة العداء للخديو؛ ثم إنهم لم يكونوا عسكريين بالمعنى الذي نفهمه الآن من تلك الكلمة، فلم يكن لهم قوة التنظيم ولا المصابرة على أنواع الجهاد. حتى عرابي نفسه لم يستطع أن يتصرف في موقفه تصرف الجندي المغامر. ولو أنه أراد النجاح بأي ثمن لما تردد لحظة واحدة في القبض على الذين اشتبه في خيانتهم، ولا تردد في سد قناة السويس حتى يقطع السبيل على الإنجليز. ثم إن الجيش الذي كان يأتمر عليه عرابي لم يكن إلا فلول الجيش الآخر الذي انتصر أيام محمد علي وإسماعيل لأنه الوسيلة التي كانت تتبع في جمعه كانت وسيلة منفرة شائنة، ويكفي أن الجنود كانت تؤخذ قسراً من القرى والدساكر تحت لهيب السياط
لكن العنصر القومي الذي بدأ بالسيد عمر مكرم أيام محمد علي ما زال يدب في أوصال البلاد دبيباً خفيّاً لا يكاد يسمع له ركز حتى تمثل في حركة الإصلاح التي قامت بعد أن هدأت الثورة العرابية وبعد أن استقرت الأمور. ذلك العنصر هو الذي تمثله المدرسة الفكرية التي بدأها جمال الدين، وكانت قد وقفت تلك المدرسة تنتظر حينما فشل عرابي وتشتت ما أعضائها أفراد كثيرون. لكنها أقبلت على الحياة بعد استقرار الثورة وهي مؤمنة بحق مصر في الحياة العامة على الرغم الاحتلال البريطاني الذي ابتليت به البلاد وعلى الرغم مما أصاب الحزب العسكري من وهن. وقد احتكت هذه الفئة الجديدة بالتفكير الأوربي فاستوعبت كثيراً من الأفكار الغربية من مصادرها الأولى، وازدهرت هذه الفئة في أخريات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وبلغ من تقدير اللورد كرومر لهم