للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أن قال: إنهم كانوا يشبهون الجيروند في فرنسا. والحق أن كثرتهم كانت تشبه الجيروند في تعلقهم بالمثل الأعلى وفي إيمانهم بسمو الفكرة وفي الثقافة والشجاعة والإخلاص

كان بين هؤلاء الشيخ محمد عبده وجمال الدين الأفغاني وانضم إليهم قاسم أمين وسعد زغلول. وقد اجتمع هؤلاء لا على أن يكونوا حزباً سياسياً ولا ليدافعوا عن فكرة خاصة عينوها، وإنما هي الحوادث والميول ربطت بين قلوبهم. وكانت الوطنية المصرية قد فقدت قليلاً من الثقة حين ضعضعها الفشل بعد الثورة لكنها بدأت تلتئم رويداً رويداً فابتنيت على أسس أخرى غير التي قوضتها الثورة. ونمت في أعقاب القرن الماضي تلك الفئة المثقفة التي مثلت في مصر نفس الدور الذي قامت به الطبقة الوسطى المستنيرة في إنجلترا وفرنسا. فكانوا هم رسل الحياة الأوربية في مصر. درس الكثير منهم القانون في جامعة ليون بفرنسا، وتأثر الكثير بالدراسات التي زخرت بها كتب الفلسفة والقانون. فكان من هؤلاء زعماء الفكر في مصر، بل لقد كان منهم الزعيم السياسي مصطفى كامل

لم يكن بين هذه المدرسة الحديثة التي قامت في سنة ١٨٩٠ وما بعدها علاقات وثيقة بالثورة العرابية، وقد كانت الثورة العرابية مادية طغت فيها المصلحة على الوطنية الخالصة، ولم تكن هذه الثورة مستنيرة لأن الكثرة من زعمائنا كانوا جنودا غير مستنيرين، بل ولم تكن شُجاعة لأن عرابي نفسه لم يكن شجاعا. أما جمال الدين ومحمد عبده وقاسم أمين ومن جرى في أثرهم فقد جمعوا بين الوطنية والتنور والشجاعة. ولم يربطوا غرضهم القومي بترقيات لفئات خاصة، وكانت ثقافتهم أصيلة لأنهم درسوا أصول الثقافة عند الغرب وعند الشرق وحاولوا أن يؤلفوا بين الثقافتين.

تلك هي الفئة التي حملت الثقافة القومية الأولى في هذه الفترة الدقيقة من تاريخنا الحديث. ولقد أدت رسالتها على خير وجوهها وكان عصرها غنيا بمختلف أنواع النشاط. وحينما ألقى العرابيون سيوفهم شرع هؤلاء أقلامهم يكتبون، وحينما خَفَت زئير المدافع اعتلوا المنابر يخطبون. ولقد كان الشرق والغرب خلال تلك الفترة في كفاح ظاهره العلم والدين والثقافة وباطنه الاستغلال والسيطرة والاستعباد. وكان هانوتو ورينان ودوق داركور يكتبون من ناحية الغرب، وكان جمال الدين ومحمد عبده وقاسم أمين يردون من ناحية الشرق.

<<  <  ج:
ص:  >  >>