معه أمل سمراء، ولم تلق الحياة إلا بوجه محزون كئيب يصور قلباً مكلوماً مظلماً. وقد جزعت سمراء لهذا الخطب وأشتد جزعها، وطال، ولكن أي شيء يبقي على الأيام! ولقد ذهبت الأيام الطوال بحدة هذا الجزع وشدته، كما ذهبت بنضرة شباب سمراء وكما ذهبت بحياة إبنها الحارث، وكما ذهبت بحب زوجها عبد المطلب، وأصبحت وقد تقدمت بها السن وأمتحنتها حوادث الدهر امرأة مذعنة لحكم القضاء، لا تنكر شيئاً ولا يسرها شيء محزونة ولكن في دعة! ملتاعة ولكن في هدوء!
وقد أحست إنكار الناس من حولها لما يرون من حزنها وكآبتها. وما يجدون من انقباضها عنهم. فجدت ما استطاعت في إخفاء ما تجد وكتمان ما تحس، وأحتفظت لنفسها بهذا الكنز الحزين، كنز الذكرى وما تثيره من العواطف وما تهيجه من اليأس. وتركت للناس من نفسها شخصاً عادياً يبتسم حين يبتسمون، ويرضى حين يرضون ويشاركهم في أكثر ما يجدون من عاطفة أو شعور.
على إنها كانت تجد شيئاُ من الرضى وراحة النفس حين تجد من زوجها عطفاً عليها أو أنساً إليها. وكان زوجها منذ أصابها هذا الخطب شديد الرفق بها، كثير الزيارة لها يصفيها مودة خالصة قوية، ولكنها خالية أو كالخالية من هذا الحب الذي يحيي قلوب النساء.
أصبحت سمراء في هذا اليوم محزونة ظاهرة الحزن، كئيبة بادية الكآبة. أقبل عليا إماؤها الثلاث يحيينها تحية الصباح فردت عليهن تحيتهن رداً فاتراً، ثم جلست وجلسن وأخذت مغزلها وأخذن مغازلهن، وعملت أيديهن في الغزل وسكتت ألسنتهن عن الكلام. وكانت سمراء تدع مغزلها من حين إلى حين وتظل ساكتة واجمة، وربما إنحدرت من إحدى عينيها دمعة حارة فأسرعت إليها تزيلها بيدها دون أن تقول شيئاً. والأماء صامتات ينظرن في حزن عميق إلى مولاتهن الحزينة، ولا تستطيع واحدة منهن أن تبدأها بالكلام. فلما طال عليهن هذا الصمت وهذا الحزن وثقل عليهن ما كان يجدن من ألم وما كان يملأ قلوبهن من حب للاستطلاع ورغبة في الكلام وميل إلى تعزية مولاتهن. اجترأت (ناصعة) وكانت أشجعهن قلباً وأطولهن لساناً. لأنها كانت تعرف مكانتها عند سمراء، فقالت: لقد أصبحت يا سيدتي على حال ما رأيناك عليها منذ زمن بعيد، فقد كنا نراك محزونة كئيبة ولكنك كنت تجاهدين الحزن وتدافعين الكآبة وتتكلفين الرضى، وكنا نجد من ذلك ما يشجعنا على