للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

تجول بين جنباتها، وتندمج في جماعاتها، فتحاور وتداور، وتقول وتسمع، وتُرضي وتغضب، وتنفلت معهم من كل قيد، وتخرج على كل وضع، وتكون حاضراً بعقلك وقلبك وعواطفك، حتى تنبسط أمامك النفوس، وتنكشف لك السرائر، ويُعلن كل مخفيّ ومطويّ، فيتبين لك القوم بعقلهم الواعي، وما يسمونه بالعقل الباطن

لقد خرجت منذ عامين برفقة صديق عزيز إلى بساتين القناطر الخيرية في يوم عيد الربيع، فرأينا الناس قد احتشدت هناك على اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وتباين طبقاتهم ومراتبهم، ورأيناهم قد خرجوا من وقارهم، واستهانوا بكل ما اصطلح الناس عليه من الأخلاق والتقاليد، واندفعوا في يقظة العواطف، ورغبات القلوب، وشهوات الجسد، ما وسعهم الجهد في ذلك، فكنت أنظر إليهم في فزع وجزع، فمال عليّ صاحبي وهو يقول: لا تفزع ولا تجزع، فإن هذه - لو علمت - هي حال الناس بين الجدران، وتلك طبيعتهم من وراء الحيطان، وثق أن ما يظهر به الناس في الخارج من سمات الوقار ومظاهر الاحتشام إنما هو شيء متكلف مزّور، وإنه ليغطي وجه الحق على كثير من الناظرين. ولو قدر للشمس أن تشرق على جميع الناس، وأذن للحجب أن تنتهك عما وراءها لرأيت الناس في طبيعتهم الصريحة وحقيقتهم الصحيحة، وما حقيقتهم إلا ما ترى يا صاحبي.

وهذا الذي قاله صاحبي في الناس بالأمس، هو ما أقوله في أصحابي الأدباء اليوم، فهم في كتاباتهم قد يحجبون حقيقتهم ويزوّرون في طبيعتهم، ويظهرون في غير لباسهم، توخيا لمصلحة يرجونها أو رهبة لسيطرة القوانين والتقاليد، أو رعاية لروابط الصداقة وصلات المودة بينهم وبين الناس، فتراهم يبدون الرأي في احتراس ويحكمون على الأشياء بقدر، ويخدعون ضمائرهم فيحضون ما ليس بالحسن، وهم على عكس هذا كله في أنديتهم الأدبية، ومواطن سمرهم وصفوهم، صرحاء وضحاء، لا يقتصدون في شيء ولا يبقون على شيء، فتسمع منهم الرأي الصحيح والتقدير الصريح والنقد العنيف، والأحكام القاسية التي تتصل بالآثار وبالشخصيات وتتناول الأفراد والجماعات، وربما يفزعك هذا النقد بأسلوبه، وربما تنكره على أصحابه، ولكنك لا شك ستجد فيه كثيراً من الصراحة المحمودة، والتقدير الحق. وأذكر أن أديباً كبيراً أعرفه كتب مقالا في تقريظ صاحب له في إحدى الصحف، فهول وبالغ ومجد وقدّس حتى طار بصاحبه إلى السماء، فلما قابلته في المساء

<<  <  ج:
ص:  >  >>