وهذا التحليل أو التمييز للضوضاء قيض للإنسان إيجاد الموسيقى على أنها عمل قائم بذاته، واستغلال لعالم الأصوات. والفضل في إنجاز هذا أو على الأقل في ضبط سيره وتوحيده وجمع قوانينه، يرجع إلى علم الطبيعة، الذي صار استكشافه هو ذاته بهذه المناسبة وعرف بأنه علم المقاييس. وقد استطاع هذا العلم من قديم الزمان الملائمة بين القياس وبين الإحساس، وأمكنه البلوغ إلى نتيجة كبرى وهي إحداث الإحساس بالصوت على نحو دائم متماثل بواسطة آلات. وما هذه المعازف في حقيقتها إلا آلات للقياس!
فالموسيقار يجد في حوزته مجموعة وافية من الوسائل المحدودة المفصلة تقابل بين الاحساسات والنغمات أتم المقابلة. عناصر عزفه حاضرة بين يديه، محصاة العدد، مرتبة الصفوف. وهذه الإحاطة الدقيقة منه بوسائله بحيث لم يقف عند الإلمام بها بل نفذ إلى كنهها وتزود بها في صميم نفسه، تمكنه من التقدير والتدبير، ومن البناء والتركيب، من غير أن يشغل خاطره بمادة عمله، وميكانيكية فنه بوجه عام.
ويحصل من ذلك، أن يكون للموسيقى مجال خاص بها، هو مجالها على الإطلاق. وإذا عالم الفن الموسيقي، أي عالم الأصوات، ظاهر الانفصال عن عالم الضوضاء. وبينما أن حركة من الضوضاء لا تبعث في وعينا إلا حدثاً مفرداً، فإن نقرة واحدة من النغمات تبعث وحدها كل العالم الموسيقي. وهذه القاعة التي أحاضر فيها والتي تحسون فيها لغط صوتي أو غيره من شتى العوارض المسموعة، إذا أنتم سمعتم فيها على حين غفلة نغمة من النغمات، إذا اهتز وتر أو نبضت آلة منغومة.
فإنه لا يكاد هذا الصوت الفذ الذي لا يخلط بغيره من الأصوات العادية يمس أسماعكم، حتى تحسون فيه فاتحة واستهلالاً وحتى ينشأ في الحال جو آخر، وتخيم على الجميع حالة انتظار خاصة، ويؤذن بالظهور نظام جديد بل علام جديد، وتتهيأ نفوسكم الصاغية لاستقباله، بل إن بها لجنوحاً من تلقاء نفسها إلى توسيع مقدماته؛ وإلى توليد احساسات لاحقة بالإحساس الوارد على نفوسكم، وعلى شاكلته وفي مثل صفائه.
وكما توفر لنا الدليل طرداً فهو متوفر عكساً
فإذا وقع في قاعة من دور السماع، والألحان ترن فيها وتسودها، أن هوى مقعد، أو سعل