للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ساعل أو اصطك باب، فسرعان ما تشعر بانقطاع لا تدري ماهيته وبأن شيئاً لا يمكن وصفه، أشبه بالسحر، قد بطل أو بالزجاج، قد تكسر أو انشعب.

وحاصل القول أن هذا الجو، هذا السحر القدير الوشيك العطب، هذا العالم من الأصوات ميسور لأهون مؤلف موسيقي وذلك بطبيعة فنهن وبما يفيده مباشرة من هذا الفن.

وبخلاف هذا حالة الشاعر، فإن ما أوتيه أقل حظاً من صاحبه بما لا يحد. فتراه يعالج مطلباً لا يختلف كبير اختلاف عما يرومه الموسيقار وهو محروم مما تقدم بيانه من المزايا العظيمة. فهو ملزم بأن يخلق مبدئاً ومعيداً في كل دقيقة، ما يلقاه الآخر جاهزاً مهيئاً.

يلقى الشاعر الأمور على شر حال من السوء والفوضى. فبين يديه هذه اللغة المعتادة، هذه المجموعة من الوسائل الجافية الغليظة التي يطرحها كل علم مضبوط لكي يبتدع لنفسه أدوات التعبير عن أغراضه. فالشاعر لابد له من استعارة هذه الطائفة من الألفاظ والقواعد المأثورة المنقولة غير المعقولة التي صاغها من صاغها غريبة في استعمالها، غريبة في تفسيرها، غريبة في قيد أحكامها.

واقل الأمور صلاحاً لمقصد الفنان، هو هذه الفوضى الأصيلة التي ينبغي له في كل لحظة أن يستخلص منها عناصر النظام المنسوق الذي يريد استحداثه. ولم يرزق الشاعر بعالم من علماء الطبيعة فيحدد له الخصائص الدائمة لعناصر فنه، ويعين علائقها ونسبها والأحوال المتماثلة لإصدارها. وليس لديه مفتاح للدوزان! ولا ميزان لضبط حركة الأصوات ولا واضعون للسلم الموسيقي ولا متنطسون في أصول تركيب الأنغام! وليس يصح عنده علم يقين، اللهم إلا العلم بالتموجات الصوتية المعنوية في اللغة، إلى أن هذه اللغة لا ترد مورد النغمة في اتجاه واحد على السمع وهو الحاسة المثلى للتوقع والإصغاء، بل اللغة بعكس ذلك، خليط من المنبهات الحسية والنفسية غير متماسكة، ولك كلمة هي مجموع وقتي من المؤثرات لا رابطة بينها، فالكلمة تجمع صوتاً ومعنى، بل أخطأت، فإن كل كلمة هي عدة أصوات وعدة معان معاً، أجل، عدة أصوات، أصوات عداد ما في الوطن الواحد من أقاليم، بل عداد ما في كل إقليم من أناس، وهذا ظرف عصيب على الشعراء، إذ يفسد الوقع الموسيقي الذي دبروه، وتشوه معالمه بتصرف القراء. ثم، عدة معان، لأن الصور الذهنية التي توحيها لنا كل كلمة لا تخلو بوجه عام من اختلاف وصورها الثانوية

<<  <  ج:
ص:  >  >>