الوجدان ويؤثر في النفس بأنغامه؛ ونقدر أيضاً ما للنفس البشرية من مرام مختلفة. ونتذوق المتنبي على أنه محارب مغامر مدجج بسلاح الحنكة والخبرة والاعتداد بالنفس ونعرف له جوانب أخرى. أما ابن الرومي فإننا قد أدركتنا في أول الأمر حيرة في اختيار صفة واحدة له، إذا أنه قد يقف موقف الخطيب المؤثر كما في قصيدته في التحريض على قتال العلوي صاحب الزنج بعد أن خرَّب البصرة وهي التي يقول في مطلعها:
ذاد عن مقلتي لذيذ المنام ... شغلها عنه بالدموع السجام
وابن الرومي مثل أبي تمام مُغْرَى بابتداع التشبيهات والأخيلة والمعاني، ولكنها لم نشأ أن نختار له الرمز الذي اخترناه لأبي تمام لأنه قد يدركه الفتور، وأبو تمام لا يدركه الفتور؛ وقد يطيل حتى يمل سامعه خصوصاً في المدح، وأبو تمام لا يطيل مثله. وقد تدركه اللجاجة الفكرية في إيراد الحجة ودفع الحجة بالحجة على طريقة المجادل المناقش المناظر لا على طريقة الخطيب الذي يؤثر بالعبارات والأخيلة المشبوبة النارية المستقلة في معناها بعضها عن بعض في إيجازها وتركزها تركز الأحماض أو الروائح العطرية المنعشة أو المخدرة أو المميتة، وابن الرومي يبسط معناه بسطاً كما تتسع دائرة موقع الحجر في الماء أو كما يبسط الخباز الرقاقة في قول ابن الرومي نفسه:
ما بين رؤيتها في كفه كرة ... وبين رؤيتها قوراء كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرة ... في لجة الماء يُرمْى فيه بالحجر
وهذا هو الوصف الذي ينطبق على ابن الرومي نفسه في صناعة المعاني فكأنه خباز المعاني. ولابن الرومي في الأهاجي ما هو أشد من الأحماض فتكاً، ولاكن أثرها ناشئ أيضاً من تَقَصِّيهِ أجزاء المعنى وصوره المختلفة وتوليد المعنى من المعنى. ولم نشأ أن نصف ابن الرومي بما وصفنا به البحتري الذي ينتشي بما يصوغ من حلوى الصناعة وما يلوكه منها كما ينتشي الممثل بما يمثل من الأحاسيس. لم نشأ أن نصفه بهذا الوصف لو أنه وصف ينطبق على كل ذي فن إلى حد ما فهو ينطبق على الشعراء جميعاً ولكن ليس كانطباقه على البحتري.
وابن الرومي لا يبلغ به التفاني في فن الألفاظ وصناعتها والانتشاء بها ما يبلغه البحتري بل يستخدم ابن الرومي الألفاظ استخدام السيد الآمر لعبده محبوباً كان العبد أو غير