للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

محبوب؛ أما البحتري فكان لا يقرب الألفاظ إلا كما يقرب المحب حبيبته ولم نشأ أن نصف ابن الرومي بما وصفنا به الشريف الرضي الذي نتذوقه كموسيقي يحكم الوجدان والفطرة السليمة؛ لم نشأ أن نصف أبن الرومي بهذا الوصف لو أن له من الغزل والعتاب والشكوى أشياء عميقة الأثر في النفس كقوله في الغزل:

أعانقها والنفس بعدُ مشوقة ... إليها وهل بعد العناق تدانى

كأن فؤادي ليس يشفى غليله ... سوى أن يرى الروحين يمتزجان

وقوله في العتاب:

تخذتكم ترسا ودرعا لتدفعوا ... نُبال العِدَى عني فكنتمْ نصالها

وقد كنتُ أرجو منكم خير ناصر ... على حين خذلان اليمين شمالها

فإن أنتمُ لم تحفظوا لمودتي ... ذِماما فكونوا لا عليها ولا لها

قفوا موقف المعذور عني بمعزل ... وخلوا نبالي والعِدَى ونبالها

ولكنه بسبب لحاجته الفكرية أحيانا وتَتَبُّعِهِ أو موازنته بين أجزاء المعنى وتلمسه دقائق الصور قد تضيع منه النغمة الشعرية وإن كان شعره يكتسب ميزة أخرى. وقد أحس ابن الرومي مع ذلك في نفسه بذلك الجانب منه الذي يشبه به الموسيقىّ أو الطائر الصادح فقال زاعما أنه لا يمدح ممدوحه:

إلا كما راقت القمريَّ جنَّتُهُ فظل يُتبعُ تغريدا بتغريد ولم نشأ أن نصفه بما وصفنا به المتنبي من أنه محارب مغامر يغالي في الاعتداد بالنفس لأن ابن الرومي لم يطلب مُلْكاً ولا حُكماً ولا رياسة وإنما طلب السلامة من الناس وإنصاف أدبه وفضله وفنه وإعطاءه حق ذلك الأدب والفضل مما في أيدي الوجهاء والرؤساء والأمراء من أموال الله والناس التي كانت كثيراً ما تنهب نهبا. وكان ابن الرومي مرهف الحواس منهوما بالجمال في كل مظاهره ومطالبه، وهذا يكفي أن يكون شغله الشاغل في الدنيا بعكس المتنبي. وكان ابن الرومي يخشى الأسفار في طلب الرزق وله في وصف خشيته منها أشعار، ويخشى ركوب البحر ويخشى لقاء الناس ويتشاءم بهم، فكانت صفاته النفسية تختلف اختلافا كبيراً عن نفس المتنبي، ولا نحسب أن المتنبي كان يذرع في مخاطبة ممدوح كما فعل ابن الرومي في قوله:

<<  <  ج:
ص:  >  >>