على خشية الذم، وهذا أمر يشاهد كثيراً في الحياة؛ فإذا اشتهر رجل بالسخر ظن الناس كل ما يقول من قبيل السخر أو الذم حتى ولو لم يقصد إلا المدح والتودد والصفاء. ومن شواهد سوء الظن هذا ما حدث عند ما مدح ابن الرومي أبا الصقر إسماعيل بن بلبل الشيباني بقصيدته الرائعة التي مطلعها (أجنت لك الوردَ أغصانٌ وكثبان) فأساء الممدوح الظن بقول الشاعر:
قالوا أبو الصقر من شيبان قلتُ لهم ... كلا ولكن لعمري منه شيبان
وكم أبٍ قد علا بابن ذر اشرف ... كما علا برسول الله عدنان
ولم أُقصرْ بشيبان التي بلغتْ ... بها المبالغ أعرقٌ وأغصان
وظن أنه يهجوه بضعة الأصل مع أن المدح ظاهر للأصل والفرع. ولا نظن أن الغباء هو الذي سما بالممدوح إلى مرتبة الوزارة، وقد كان وزيراً فلم يبق إلا التعليل الذي ذكرناه، وهو أن الرجل إذا اشتهر بالسخر والذم حُملُ مدحه على محمل الذم والسخر، والشك في نية القائل يُغطي على فهم السامع، وكثيراً ما تراه في الحياة يُغطي على فهم ذوي الفهم حتى تراهم كالأغبياء. والظاهر أن حادث أبي الصقر لم يكن الحادث الوحيد من نوعه وإن كان أظهر حادث. فإن لابن الرومي أشعاراً كثيرة يشكو فيها من خذلان الممدوحين مثل قوله:(مالي لديك كأني قد زرعتُ حصى). وقوله:(فلا تعتصر ماء الصنيعة بالمطل). وقوله:(طال المطال ولا خلود فحاجة). وقوله:(أبا حسن طال المطال ولم يكن). ومثل هذا كثير في شعره. وكان يغبط البحتري لإقبال الممدوحين على شعره، ومن أجل ذلك كان يتعرض ابن الرومي للبحتري، وله أهاجٍ منها قوله:
الحظ أعمى ولولا ذاك لم نره ... للبحتري بلا عقل ولا حسب