إذا هم لم يمتازوا بتلك النفس الحساسة التي تستجيب لكل الدواعي؟ وعندنا أن قاسم أمين كان أحد الذين انفعلوا لأثار البيئة التي عاشوا فيها، ثم أعطوا بعد ذلك أضعاف ما أخذوا. وهو يشبه في ذلك جمهرة الروائيين الذين صوروا الحياة كما كانت وكما ينبغي أن تكون. ولو أنه أوتي حظا من التأليف الروائي لخرجت من بين يديه مسرحيات تطاول ما ألفه الآخرون. وحسبه أن كلماته التي لم تبلغ الستين صفحة لم تزل معرضاً لنواح كثيرة من حياة الجيل السالف: معرضاً احسن تصويره أي إحسان. ولعلنا نطيل كثيراً إذا حاولنا أن نتأثر ما صوره قاسم أمين من حياتنا المصرية، فهو في مرة يصف حياة خمس من الشيوخ أحيل إلى المعاش وقضوا أوقات فراغهم في لعبة الطاولة وفي مناقشات بريئة صاخبة عن السن. قضي الموت على أربعة منهم (وبقي خامسهم منفردا كئيبا لا يتكلم ولا يخرج من بيته لا يدري ماذا يصنع بحياته ويراقب الموت الذي يخلصه منها.) وهو يكتب في مرة عن متطفل اقتحم بيت أحد أصدقائه وفيه قوما يسمرون فأفسد سمرهم. وهو في كل ما يصف شاعر بالجدل الذي يملك نفس الروائي، وهو يقول في ذلك:(يقصد الناس التياترات لرؤية الحوادث الغريبة، وسماع القصص المضحكة أو المبكية. والعاقل يكتفي بما يراه حوله ويسمعه، يتفرج مجانا على وقائع لم تبلغها مخيلة المؤلفين، ولا مهارة الممثلين).
وشيء آخر شارك قاسم أمين فيه أهل الفن والأدب، ذلك هو الشعور بالجمل. فلقد كان خياله سخيا لدنا، اتسع لألوان كثيرة من الجمال. وقد حاول أن يسبقه على غرائز الفطرة الأولى التي اعترف بها. فهو إذا اعترف بأن الإنسان يولد شريرا فقد ذهب إلى أن الغريزة قد يستعلي بها إلى المكان الأسمى. وهو في ذلك يختلف عن كل معاصره الذين ثاروا به. ولأن هؤلاء لم يدركوا ذلك الإحساس الأول من أسس التربية والإصلاح فقد ضل قاسم أمين عرضة لسوء الضن، وضلت كلماته غرضا لسوء التأويل؛ وهو قد كان يؤمن بأن (اعظم ما يصاب به المرء أن يحرم من الذوق السليم) وبأن (الذوق السليم هو الإحساس الفطري الذي ينمو ويتهذب بالتربية. وهو الشعاع اللطيف الذي يهدي صاحبه إلى أن يقول ويفعل ما يناسب المقام)
وكأنما قد ألهمت تلك النفس الحساسة حب الجمال إلهاماً، وكأنما تشرفت على ما تندفع به نفس الإنسان من عواطف نبيلة، كما اطلعت على ما يتدفق في أغوارها من غرائز