للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وإذا أنت نثرت بين يديك كل ما قيل عن تنازع الغرائز، وإذا أنت نشدت فكرة تأخذ بجماع الغرض الأسمى للتربية، لم تجد تصويراً أدق مما ترسّمه قاسم أمين في تلك الكلمات. كل كلمة تنضح من ينبوع من الحكمة والحق والحب، وكل فقرة تجبهك بحقيقة من الحقائق التي يعيها رجال التربية ويعلمون مداها في تربية العقل والوجدان في العصر الحاضر. وإنما النفس الحساسة التي تفيض رحمة وحناناً هي التي شعرت بكل ذلك. وقاسم أمين القاضي هو الذي آمن ذلك الأيمان. أليس القاضي هو الذي يستطيع أن يبلغ بإحساسه إلى مستسرّ النفس ويتعمق بشعوره إلى أطوائها؟ إلا أنه كان قاضياً فذاً ذلك الذي استطاع أن يوفق بين العدل وبين العفو. فهو يشعر بنواحي الضعف البشري كما يشعر بها شاعر مثل شكسبير ثم لا يمنعه ذلك من أن تجري أحكامه بقسطاس مستقيم

قاسم أمين المربي وقاسم أمين القاضي هو الذي شعر بكل ذلك؛ لكن قاسم أمين المتفنن الأديب هو الذي استطاع أن يؤلف بين العفو وبين العدل وأن يداول بين المثل الأعلى وبين الفطرة الدنيا. والمتفنون في العالم هم أولئك الذين ألفوا بين المتناقضات وجمعوا الأبيض والأسود في صعيد واحد يفرقون بين هذا وذاك بما يوحي إليهم من الحكمة وبما يُلهمون من شعر أو حديث أو تصوير. ولولا أن المتفننين القدامى والمحدثين قد اعترفوا بالرذيلة والخطيئة والشر لما ورث العالم ذلك الفن الذي رفّه على الإنسان حياته. وقد أوتي قاسم أمين نفس المتفنن الأديب وهي التي ألهمته أن يرد حياة المجتمع في عصره إلى عناصرها الأولى فاستطاع أن يفرق بين الحق والباطل واستطاع أن يدافع عن الأصول التي اهتدى إليها حرارة الأدباء والمتفننين

ولسنا ندري: أإذا أتيح لقاسم أمين أن يكتب في الأدب التمثيلي أكان يكتب من المسرحيات ما يشاكل تلك النفس الفنانة التي ترددت بين جنبيه؟ لكن قاسماً كان فيما يكتب يستروح نفحة نقية من الأدب، ويتهدّي بشعور عميق من الفن. إلا أنه لأمر ما لم يتجه إلى الأدب المسرحي، أو أقل إنه أوتي الكثير من عدة. الفن لكنه لم يتهيأ لإنتاج الفن نفسه. وإنما قوام الفن تلك الحساسية البريئة التي تستطيع أن تشفق على المجرم وأن ترى الغرائز الدنيا مصطخبة مع الأفكار العليا. أنها نفس حساسة تلك التي تستجيب لكل الآثار التي تلقاها، وهي هي نفس المتفنن الأديب. وأي الرجال كان شكسبير، وأي الرجال أبسن أو برناردشو

<<  <  ج:
ص:  >  >>