همسات تُخافت بها، وفي العيون نظرات تتناجى. والناس تنظر إلينا فما يهمنا شيء من نظرات الناس ولا من حديث الناس؛ لأننا كنا يومئذ نعيش في أنفسنا بعيدين عن دنيا الناس. . .
هل تذكرين. . .؟
كان ذلك منذ بضع عشرة سنة. . . وكنا صغيرين. . .!
وجلسنا ذات يوم في حديقة على الشاطئ. . . وكانت يدك بين يديّ وقد أطرق كلانا، وتراءى لنا في لحظةُ حلم رائع سعيد تجاوز بنا الزمان والمكان إلى حيث لم يكن لنا عهد، يظلنا سقف واحد في دويرة تجمعنا وتجمع لنا ما تفرق من أحلام الشباب. . . وظلت في إطراقك وظللتُ، نتناجى ونتبادل الأفكار صامتين؛ فما كانت بي حاجة لأحدِّثك عما في نفسي ولا كانت بك حاجة؛ وتفاهمنا على صمت. . . ونظرتُ في عينيك ونظرتِ، فتضرُّمَتْ وجنتاكِ من حياء، وأحسستُ يدك تختلج بين يديّ. . .
ونهضنا صامتين فأوصلتك إلى دارك وعدتُ وحيداً إلى داري وأنا أفكر. . .
وعرفنا من يؤمئذ أن غداً هو يومٌ من عمر الزمان؛ وما كان يعنينا قبلٌ إلا حاضرنا الذي ننعم به. . .
أما زلت تذكرين يا عزيزتي؟
ولما ضٌرب الحجاب بيننا وقامت دونه التقاليد، تلفت القلب ينظر؛ ولزمت الوحدة أياماً أعرض ذكريات الماضي ولهفت الحاضر وأمل المستقبل فعرفت. . .
. . . عرفت يومئذ أن حقيقة الزمان ليست هي في هذا الحاضر، ولا في الغد المنتظر؛ ولكنها في اليوم الذي مضى ولا سبيل إليه. . . أمس!
حينما يكون معنى الزمان في نفس الحي هو اليوم الذي يعيش فيه وحسب، فهو في حقيقة الحياة ومعنى السعادة؛ فإذا سولت لها الأمانيّ أن يتعجّل أيامه فيتطلّع إلى ما قد يكون في غد، فقد آذنته الدنيا بيوم يٌطْرد فيه من جنة السعادة نادماً أسوان. . . ثم لا تكون إلا الثالثة، حين يتذكر أن له ماضيا كان وطواه الزمن؛ فما هو يومئذ حيٌّ يعيش في حاضره، ولا آملٌ يفكر في مستقبله؛ ولكنه ذكرى بلا رجاء، ولهفة مالها انقضاء!
الحاضر هو الحقيقة، هو السعادة، هو الحياة؛ وما الغد إلا وهمٌ يدعمه خيال الحيّ ليفر إليه