للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لقد يتهم الإنسان لغته وهو يترجم هوميروس. . . فهو لا يدري كيف ينقل كلامه وهو يصف الرجل يتل الشاة ثم يذبحها ثم يسلخها ثم (يوضّبها!) ثم يشعل النار ثم يؤججها ثم ينثر فيها من أعواد الند والرند والصندل ثم يلقي فيها بالقراميد ثم يقطع اللحم ثم ينتشر القُتار (رائحة اللحم المشوي). . . ثم. . . ثم. . .

حقاً إن في كتب فقه اللغة ما يعين المترجم على كل هذا، لكن المترجم يغازل الذوق العام للقراء وهو ينقل آثار الأعاجم، وهو إذا قسا على هذا الذوق أعرض عنه، ولم يلتفت إليه، وذوق القراء عندنا ذوق كسول لا يجب أن يُرهق بما حُشد في كتب فقه اللغة، لأن أكثر ما في هذه الكتب حوشي وقد هجر استعماله، والمترجم لا يستعمله إلا إذا ضاقت به الحيل، ولم يستطع أن ينحت من الكلمات الحديثة السائغة ما ينزل برداً وسلاماً على القراء.

وبعد فأي الملحمتين أثرت في نهضة الأدب المسرحي اليوناني أكثر من الأخرى، الإلياذة، أم الأوديسة؟

لقد أشرنا إلى ما قيل من أن هوميروس قد نظم الإلياذة للرجل، كما نظم الأوديسة للمرأة. الإلياذة التي تفيض بذكر الحروب ووصف المعامع ومقادير الأبطال في أولئك جميعاً، والأوديسة التي هي قضية زوجة وفية غاب عنها زوجها حتى ظن أنه غير آيب وحتى طمع فيها كل طامع، لأنها تفردت بين نساء زمانها بالحسن الذي لا يغيره مرور الأيام ولا ينال منه تطاول الزمان.

نظم هوميروس الإلياذة لتكون مثالاً للرجال يحتذونه. . . إذ ينبغي أن يكون الرجال شجعاناً. ينبغي أن تثور فيهم النخوة إذا تعرض رجل نذل مثل باريس لامرأة أحد منهم بسوء فيقوموا كرجل واحد ويجتمعوا من كل حدب وصوب ليردعوا من نالهم بالأذى في أعراضهم، ولو شبوها ضراماً، وَصَلَوْها أعواماً. . .

ونظم هوميروس الأوديسة للنساء مثالاً رائعاً من الوفاء يحتذينه. . . إذ ينبغي أن يكون النساء وفيات لأزواجهن فلا يفرطن في أعراضهن، ولا يستسلمن للمقادير إذا عارضت شرفهن. لقد غاب أودسيوس زمناً طويلاً، واجتمع عشاق بنلوب في قصره يراودون زوجه ويأكلون زاده ويهينون ولده، ومع ذلك فلم تضعف بنلوب، بل احتالت للطاغين العتاة، وصابرت، وضربت بعضهم ببعض حتى آب زوجها فحصد شوكتهم واستأصل شأفتهم.

<<  <  ج:
ص:  >  >>