لنا إذا كان المبشرون بالدين قد تساموا إلى حد اعتبار الدعوة الدينية واجباً روحياً مقدساً، واسترشدوا بالمثل الأعلى الذي أوضحناه في الفقرة الأولى من هذا الفصل، ففي كلتا الديانتين نجد نفوساً متحمسة تحل دينها محل الحقيقة العليا في حياتها، وقد وَجَدَ مثل ذلك الكلف الشديد بالشئون الروحية مخرجاً في تلك الحماسة التي أدَّت إلى اعتناق الحقائق الجزلة السديدة، وإلى سيادة المذاهب والعقائد التي آمن الناس بصحتها، وهذا كله مصدر القوة التي اشتدت بها عرى الحركات التبشيرية وثبتت قواعدها. وهناك قوم لم يعملوا أكثر من الاستجابة إلى دعوة الداعين، ولكنهم اعتنقوا الدين الجديد بحماسة لا تقل عن حماسة الأولين، وعلى نقيض هؤلاء وهؤلاء عرف الإسلام كما عرفت النصرانية قوماً آمنوا بكلتا الديانتين، وكانت الشرائع الدينية لديهم مجرد ذرائع إلى ما يبتغون من الأغراض السياسية أو وسائل إلى ما يلتمسون من أوضاع للنظم الاجتماعية، وهكذا اعتنق أولئك القوم دينهم الجديد على أنه ضرورة يخطرون أنفسهم عليها إخطاراً، أو على أنها حلول مناسبة للمشاكل التي لم يعنوا بالتفكير فيها وإيجاد حلها بأنفسهم، ومثل هؤلاء نجدهم على السواء في كلتا الديانتين، إذا فقد اعتنق الإسلام كما اعتنق النصرانية في ظل الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية قوم لا تصلهم صلة بهذه الحرقة الروحية، وذلك الغليل النفساني الذي يسهِّد المبشرين الصادقين، وفوق هذا فتاريخ الحركات التبشيرية وما يصادفها من الأحداث إنما يعنى عادة بتدوين حالات التحول من دين إلى آخر دون العناية بتحليل الدوافع التي حملت الناس على استبدال دينهم بغيره، وتاريخ التبشير الإسلامي على وجه الخصوص يفتقر افتقاراً بيناً إلى المادة في هذا الصدد لأن الأدب الإسلامي معوز إلى أخبار حالات التحول إلى الدين الإسلامي، بينما اهتم أدب الكنيسة النصرانية بمثل هذه الحالات في الدين المسيحي وأحلها منه محلاًّ رفيعاً، وعلى هذا فنحن في عجالتنا القادمة لموضوع النشاط التبشيري الإسلامي لم نستطع الوصول إلى طبيعة العوامل التي حملت الناس على الدخول في الإسلام، سواء منها السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الدينية البحتة، ولو أننا استطعنا في بعض الظروف أن نشير إشارات عرضية لما أحدثته بعض هذه العوامل من الآثار.