للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كان ولا يزال محترماً دائماً لعموم فكرة اعتبار العدالة فضيلة خلقية. الرجل الذي على الفطرة، بل الطفل الغرير، يقبل بطيبة خاطر عقاباً يعتقد عدالته، ويثور في نفسه على عقاب يراه ظالماً. ذلك معناه تأصل فكرة العدالة لدى الجميع، العدالة العامة التي يحسها الناس جميعاً ويحنون لها الرؤوس إكباراً وإجلالاً، لا العدالة القانونية المدونة في بطون كتب القانون والتي تتغير بتغير البيئات. وفي هذا يقول مُونْتاني الشاك الذي يرفض كل ما لم يقم عليه دليل لا ريب فيه: (العدالة في نفسها الطبيعية العامة، فيها من النبل ما ليس في العدالة الخاصة الأممية التي تنفذ عند الحاجة بسلطة الشرطة ورجال الأمن العام) كذلك (فُولتير) نراه يدلل على عمومية عاطفة الدولة، بعد أن بحث الأمر بحثاً دقيقاً، بدليل مقنع إذ يقول: (فكرة العدالة تظهر لي حقيقة من الطراز الأول، يقبلها الجميع ويشعرون بوجوب احترامها، حتى أن أكبر الجرائم نراها ترتكب تحت حجة باطلة من العدالة. الحرب، وهي أكبر الجرائم الهدامة التي تتعارض والغرض الإنساني النبيل وهو المساعدة والتساند، يجتهد في تبريرها من يشعل نارها أولاً بحجة الدفاع عن العدالة)

لا أراني بحاجة لتدعيم هذا الرأي الذي يذكره (فولتير)، فالحوادث التي تتوالى أمام أعيننا منذ سبتمبر الماضي للآن تؤيد لأقصى حدود التأييد هذا الرأي. لقد أنذر هتلر العالم بحرب ضروس دفاعاً عن السوديت وحقوقهم المهضومة كما زعم؛ واليوم يلعب هذه اللعبة موسيليني دفاعاً عن حريات الإيطاليين وحقوقهم ومصالحهم المهدرة في تونس وغيرها كما يقول! وقبل ذلك استعمر الشرق والأمم المستضعفة تحت ستار من العدالة أوهى من بيت العنكبوت!

وإذا كان من الحق اعتبار العدالة حقيقة عامة أخلاقية فكذلك عاطفة الضيافة والكرم، تلك العاطفة السامية التي تنبئ بالإخاء الإنساني، نجدها ممدوحة موصى بها في كل الأوساط والأزمان؛ الأمم تعيّر بالبخل وتتمدح بالكرم إذا جدت دواعيه.

وليس عجيباً أن ترى تقارباً بل اتفاقاً على كثير من الآراء والصفات الأخلاقية؛ بل لعل العجيب ألا يكون مثل هذا الاتفاق. ذلك أن الناس، تقدم بهم الزمن أو تخلف، السامي والآري والشرقي والغربي والأسود والأبيض، أي هم جميعاً لديهم معين للأخلاق يكاد يكون واحداً، أو هو واحد في أصله وإن اختلف في بعض التطبيقات تبعاً لاختلاف الأزمان

<<  <  ج:
ص:  >  >>