(ص ٢٤) ومن رأي العقاد أن هذه الخصلة في الرجل ترجع إلى مراجع كثيرة: هي التربية في بيت العلم والوجاهة، والسليقة العربية، وفقد البصر، والكبرياء، وعزة النفس، ووهن البنية، وضعف الخوالج الجسدية ضعفاً أتاح له أن يكبح نوازع اللحم والدم ويقمع دوافع الشهوات.
وفي الفصل التالي يمعن العقاد في التحليل والكشف عن عبقرية المعري النفسية، ويحاول أن ينظر إليه في (عالم السريرة) فيسأل: هل كان من المستطاع تغيير هذه الخصلة، خصلة السمت والوقار؟ ثم يسأل: وماذا كان المعري صانعاً لو أنها تغيرت بعض التغيير أو كل التغيير؟ ثم يجيب العقاد على ذلك بأن تغييرها كان مستطاعاً كما يستطاع كل تغيير في عوارض الصفات، وأكبر الظن في هذه الحالة أنه كان يجمع بين النواسية والخيامية في نمط واحد، أو كان يخرج لنا نمطاً جديداً يضاف إلى نمط النواسي ونمط الخيام في ديوان الآداب الشرقية.
ولقد بلغ العقاد في هذا الفصل والذي قبله غاية لا تطاول في التحليل والتقدير والاستنباط، وهذان الفصلان هما خير ما في كتابه من الدراسة، وأمتع ما فيه من نفاذ الذهن العبقري في إدراك السر العبقري.
ولقد فرض العقاد لشيخه المعري فروضاً كثيرة، ونظره في أوضاع مختلفة، ولقد حاول أن يلبسه لبوس قاضي المعرة، أو أن يظهره في مظهر النواسي، أو يجعله على نهج الخيام وطريقته، ولكنه انتهى به إلى حقيقته الكائنة (فأبو العلاء هو أبو العلاء) حين يمعن في أغوار ضميره فيلمح هواجس قلبه، وشكوك عقله، ومادة علمه واختباره، وآثار نعمته وحرمانه.
وبهذه الطبيعة الكائنة رجع العقاد بشيخه المعري إلى الحياة، وطوّف به في أنحاء الأرض، واستطلع طلعه في شؤون العالم الحاضر مما رأى وسمع. فلما بلغ غاية المطاف، وسئم المضيفين والأضياف، رجع به إلى مثواه، وانتهى به إلى حيث هو في رقاده، بعد أن ودّعه بقصيدٍ على طريقة اللزوميات. والفكرة في رجعة أبي العلاء قد حاولها المنفلوطي رحمه الله من قبل، ولكن هناك فرقاً كبيراً بين العقاد والمنفلوطي في رجعة أبي العلاء وبعثه، فقد كان المنفلوطي يبغي دراسة المعري من أقواله وأشعاره فانتهج لذلك نهجاً قصصياً قريباً